كأنى بهذا الموظف الصغير، يجلس على كرسيه الخشبى القديم، بجانب غرفة رطبة أكل الزمن والصدأ جدرانها وأرضها، يقلّب فى جريدته المفضلة بعد انتهائه من واجبه اليومى فى حل الكلمات المتقاطعة، تقع عيناه على خبر فى صدر الصفحة الأولى تبشّر مصر والعالم بإصدار قانون جديد للاستثمار، فيكتم فى نفسه الضحك ويحدثها بخبث متسائلاً عن هذا الذى سيقرأ القانون ثم ينفّذه.
هذا الموظف لن يقرأ القانون ولا لائحته التنفيذية التى يتوقع أن تصدر خلال ثلاثة أشهر، هو يدفن فى درج مكتبه عدداً من القرارات الوزارية، والتعليمات الإدارية، ولوائح العمل البيروقراطية، ما يحكم كل قراراته فى التعامل مع المستثمر.
تلك القرارات والإجراءات هى بدورها نتاج لتاريخ طويل من المراسلات بين جهات متعددة تعمل فى مجال تنظيم الاستثمار، ومن الأحكام القضائية التى صدرت بخصوص مسائل ملتبسة، ومن المذكرات الإيضاحية التى لحقت بمواد غامضة ومستعصية فى لوائح تنفيذية.. هى إذاً ميراث طويل متراكم من القيود، لم يشتبك معه أحد ممن جلسوا شهوراً لإعداد مقترح بقانون جديد للاستثمار.
فى لغتنا العربية «كتب» الشىء أى «قيده»، وكل ما هو مكتوب يشكل قيداً على الاستثمار ما لم يتم إلغاؤه واستبداله بعدد محدود من النصوص البسيطة.
كثير من الدول التى نزورها يسألوننا عن حالة الاستثمار، فيقول أمثلنا طريقة: نحن ننتظر صدور القانون المنظم، فيقول قائلهم: ليس لدينا قانون للاستثمار، ومع ذلك لدينا استثمارات كثيرة!. توصيف الأزمة من البداية كان خاطئاً حين أحاله بعض التنفيذيين إلى التشريع، فى محاولة للتنصّل من المسئولية، الغرض من التشريع الجديد كان غامضاً منذ البداية! والإضافة التى أتى بها القانون بعد عامين من السجال والارتباك التشريعى، وبعد صدور تعديلات سيئة على إطار قائم أطلقوا عليها «حزمة تشريعية» صدرت عشية مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى تحت قيد زمنى موتّر.. الإضافة لا ترقى إلى مستوى التشريع الجديد! هى فى أفضل الأحوال مواد محدودة كان يمكن إضافتها للقانون رقم 8 وبعضها للائحته التنفيذية لإضافة ما عرف بالخريطة الاستثمارية، والمعاملات التفضيلية لبعض الأقاليم والأنشطة، ومراعاة قواعد وأصول الاستدامة والمسئولية الاجتماعية، وتحسين آلية فض المنازعات، وميكنة العمليات! هذا هو كل ما استطعنا أن نقف عليه من إضافات فى برنامج فضائى جمعنى بمسئول بارز فى مجال الاستثمار الصناعى.
ذلك كان رأيى منذ بداية إثارة موضوع القانون عام 2014، قلت حينها لسنا فى حاجة إلى قانون جديد، خاصة أن الغرض هو تشريع موحّد أى إلغاء عدد من القوانين لصالح قانون جديد واحد، وهو ما لم يحدث ولم يقترح منذ البداية، بل إن القانون رقم 230 الذى لم تعد به سوى مادة واحدة لم يقترح إلغاؤه أبداً!، وفى النهاية وفى ختام مناقشات القانون الذى صدر بالأمس القريب توجّه النوّاب إلى فصل المشروع إلى قانونين! أحدهما لحوافز الاستثمار والآخر لحوكمة هيئاته وأجهزته، أين الغرض الأساسى إذاً؟!..فتح «بطن» قانون الاستثمار لم يحقق الغرض المعلن، بل كان فرصة لجماعات المصالح المختلفة لفتح مواد بعينها تحقيقاً لمصالحهم.
البعض أراد إلغاء المناطق الحرة، والبعض تمسّك بها، والبعض ساءه آلية تخصيص الأراضى ومنحها بالمزاد، وآخرون أرادوا الانتصار لسماسرة الأراضى المعوّقين للاستثمار المنتج.. البعض لم ينتبه إلى فحوى القانون وعكف على تغيير أسماء الهيئات والأنظمة المتبعة ومنها هيئة الاستثمار والنافذة الموحّدة التى للعلم كانت موجودة ومنظّمة فى قانون 8 ولكن تحت مسمّى مختلف.
استهلكنا الكثير إذن من وقت حكومتنا وبرلماننا لإصدار قانون جديد نحيى عليه بالتأكيد كل من عمل بجد على إخراجه من عنق الزجاجة، فهم لم يطرحوا تغييره بادئ الرأى، ولم يكن من السهل التراجع عن التغيير وسحب المشروع بعد أن ورثوه فى حالة من الجمود والتيبس وتعطيل قرارات الاستثمار، فخاضوا حروباً ووساطات وعقدوا التوافقات من أجل تمريره ودفعه إلى الأمام وفى مقدمتهم الوزيرة الدكتورة سحر نصر شخصياً كنت أرى «سحبه» إلى الخلف وعودة قانون 8 قبل تعديلات حزمة «أشرف سالمان» أفضل من «دفعه» ليمر، وأتمنى ألا يثبت صحة هذا الرأى بعد مرور وقت قصير من عمل القانون الجديد.
النافذة الواحدة تجمع خلفها ممثلو ما يزيد على خمسين جهة، لا لشىء إلا لتلقّى الطلبات، ثم يعود كل «مندوب» إلى جهته ليمر عبر دورة عمل عقيمة ومربكة لم يفكر أحد فى محاولة تلخيصها وتخليصها من التكرار والعقم. الشركة سوف تنشأ فى يومين أو ثلاثة كما هو الحال حالياً، لكن تصاريح وموافقات التشغيل سوف تصطدم بذات المعوقات التى لم يقل أحد كيف سنعالجها، تفاصيل دقيقة لا يعرفها سوى ذلك الموظّف الصغير فى جانب الغرفة الرطبة كفيلة بأن تستدعى تغيير القانون أو لائحته التنفيذية بعد يومين من صدورها! كفيلة بتعطيل القانون ولائحته والعودة إلى قانون 8 ليتحمل الوطن كله تكلفة ضياع عامين من المحاورات العبثية التى تطرقت إلى مختلف المصالح والامتيازات لكنها لم تشتبك مع المشكلة الحقيقية المتعلقة بعزوف الاستثمار.
الامتيازات الضريبية لم تعد جاذبة للاستثمار، وإن كانت مكوناً من مكونات قراره، لكن المستمثر الأجنبى بات على قناعة بأن ما لن يدفعه فى هذا البلد من ضرائب سيدفعه فى بلده، فى بادرة كريمة من دولة فقيرة للتخلّى عن جانب مهم من إيراداتها الضريبية لصالح دول العشرين الغنية!!
المستثمر فى دولة مثل الإمارات، يعرف أن إجراءات الاستثمار مكلّفة، وأحياناً تكون طويلة نسبياً لكنها محددة بدقة متناهية، ويمكنك أن تقاضى الدولة لو لم تلتزم معك بتلك الإجراءات.
التشريعات التى تصدر لتجعل القرارات والاستثناءات كلها «جوازية»، هى بمثابة تفويض غير مشروط لسلطة التنفيذ لفعل أى شىء.. هى ليست تشريعات إذاً وهى تعيدنا إلى نظرية الدول التى أخبرتنا أنها لا تنظّم الاستثمار وفق قانون. نحن فى حاجة أكبر إلى حوكمة الجهات المتعاملة مع المستثمر على نحو يضمن حقوقه، ويضمن أيضاً لمصر أكبر استفادة ممكنة من عوائد هذا الاستثمار.
نحن فى حاجة إلى ضبط سلوك الموظف الصغير والكبير لدى تعامله مع طلبات الاستثمار، لوقف نزيف الفساد والبيروقراطية المعوّقة التى صنعناها وصنعها الأولون ثم عكفنا على عبادتها وخشينا المساس بها!.
د. مدحت نافع : خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر