بقلم: دكتور طارق سعد الدين شل
مدير العلاقات الخارجية بالمصرف المتحد
لسعر الصرف دور مهم فى التأثير على مستوى القدرة التنافسية لمنتجات الدولة وهو مقياس للأداء الاقتصادى للدولة وانعكاس لحالة الاستقرار السياسى لها وتوافر مناخ جيد للاستثمار، ويمكن تعريفه بأنه عدد وحدات العملة الأجنبية التى يمكن مبادلتها بوحدة واحدة من العملة المحلية، وسعر صرف العملة كغيرها من السلع يخضع للعرض والطلب وطالما أن المعروض من العملات الأجنبية بسوق الصرف أقل من الطلب عليه فذلك من شأنه ليس فقط ارتفاع سعره بل لظهور السوق الموازية.
إن ما شهدته الفترة الماضية فى مصر من انخفاض لسعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية يعود للعديد من الأسباب منها ارتفاع طلبات الاستيراد مع تباطؤ عجلة الإنتاج وانخفاض إيرادات النقد الأجنبى من قطاع السياحة مع رغبة قطاع كبير من المصريين للاحتفاظ بقيمة ثرواتهم من الانخفاض من خلال ما يعرف بعملية الدولرة بالاحتفاظ بالدولار الأمريكى كمخزن للقيمة مع تراكم الأسباب التى أدت إلى انخفاض الاحتياطى النقدى بالعملة الأجنبية المحتفظ بها لدى البنك المركزى المصرى وبالتالى عرض الدولار الأمريكى مما تسبب فى خلق سوق موازية للصرف الأجنبى (السوق السوداء) سجل فيها سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى فى بعض الأحيان إلى ما يقارب سبعة جنيهات ونصف الدولار «دولار» وبما يزيد على سعر الصرف الرسمى المعلن.
وفى ضوء التزام البنك المركزى المصرى بالحفاظ على الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية من خلال تنفيذ السياسات التى تحول دون انخفاض ذلك الاحتياطى مع الحفاظ على الثبات النسبى لسعر الصرف والقضاء على السوق الموازية للصرف الأجنبى فقد اتخذ البنك المركزى المصرى فى أعقاب 30 يونيو 2013 الإجراءات التى من شأنها الحد من الاستيراد من خلال تيسير استيراد السلع الأساسية والضرورية ومستلزمات الإنتاج ومنع استيراد السلع الاستفزازية وسلع الرفاهية بطرح عطاءات دورية واستثنائية لتوفير العملة الأجنبية اللازمة للاستيراد مثل تلك السلع بالإضافة لتوفير القمح من خلال هيئة السلع التموينية بعمل المناقصات الدولية وتوفير اعتمادات المواد البترولية، وقد ساهمت تلك الإجراءات فى الحد من قوائم الانتظار بالبنوك المصرية من أجل الحصول على العملة اللازمة للاستيراد كما رفع البنك المركزى سعر الفائدة المحلية على الجنيه المصرى (قبل أن يعاود خفضها فيما بعد) مما أدى لإقبال المؤسسات والأفراد لبيع ما لديها من أرصدة العملات الأجنبية وتحويلها للجنيه المصرى للاستفادة بفروق أسعار الفائدة كذلك اتخذ البنك المركزى المصرى الإجراءات التى عرفت بـFX Auction حيث فرضت ضريبة إدارية بالبنوك المصرية تراوحت ما بين 1 و%2 على مبيعات الدولار الأمريكى (وقد تم إلغاؤها لاحقاً)، وخفض حيازة البنوك من الأرصدة الدائنة بالدولار الأمريكى كنسبة من رأسمالها، تقييد حد سحب العملاء لأرصدتهم من البنوك بالدولار الأمريكى بحد أقصى 30 ألف دولار يومياً، وعدم السماح بحيازة أكثر من 10 آلاف دولار أثناء مغادرة الأراضى المصرية مع السماح للعاملين بالخارج بالحصول على أموالهم التى قاموا بتحويلها للداخل بالدولار وقت طلبها وتسهيل تحويل المستثمرين لأرباحهم بالدولار للخارج إذا ما رغبوا مما أدى لزيادة ثقتهم بالاقتصاد.
ولعل السماح بانخفاض سعر صرف الجنيه (ارتفاع سعر صرف الدولار) حجته أن تأثيره الإيجابى قد يمتد لعدد من المحاور أبرزها التجارة الخارجية والسياحة وقناة السويس بالإضافة للاستثمار الأجنبى ويمكننا استعراض ذلك كالتالى:
أولاً: التجارة الخارجية: تتمثل الحجة فى أن انخفاض سعر صرف الجنيه من شأنه أن يؤدى إلى تغيرات إيجابية فى الميزان التجارى للدولة لأن ذلك من شأنه تحسن فى الأسعار النسبية للصادرات المصرية (التى ستكون أرخص نسبياً للمستهلك الأجنبى) ويساهم فى ارتفاع حجم تلك الصادرات بما من شأنه زيادة الإيرادات بالعملة الأجنبية، وعلى العكس من ذلك سيؤدى لزيادة أسعار الواردات (حيث تكون أسعارها أعلى نسبياً من وجهة نظر المستهلك المحلى) مما يساهم فى انخفاض حجمها، لكن ذلك يرتبط بارتفاع المرونات السعرية لكل من الطلب الخارجى على الصادرات والطلب المحلى على الواردات وكذلك يرتبط بمرونة العرض المحلى وقدرة عناصر الإنتاج على التنقل من قطاع إنتاجى لآخر لمواكبة التغيرات فى الطلب الخارجى الناجم عن انخفاض سعر الصرف كما أنه على الجانب الآخر فإن معظم الواردات هى من السلع الاستهلاكية والغذائية التى تقل مرونتها السعرية للطلب كما أن جزءاً كبيراً من الواردات من المواد الأولية والمنتجات الوسيطة التى تستخدم فى الصناعات المختلفة وأيضاً فإن الواردات من السلع الرأسمالية سيرفع تكاليف الإنتاج وبالتالى فإن انخفاض سعر صرف الجنيه من شأنه ارتفاع أسعار السلع النهائية بالسوق ويؤدى لارتفاع معدل التضخم وانخفاض القدرة الشرائية للجنيه المصرى بما يؤدى لزيادة الأعباء على كاهل محدودى الدخل.
ثانياً: أن السلع الخدمية التى تتسم بها مصر وتتمثل فى السياحة ستنتعش نتيجة انخفاض سعر صرف الجنيه نتيجة زيادة القوة الشرائية للعملات الأجنبية فى السوق المحلى، لكن ارتفاع الأسعار المحلية سيؤدى لتآكل التحسن فى القوة الشرائية للعملات الأجنبية بالإضافة لانحسار أعداد السائحين منذ 25 يناير 2011 مما ينفى الميزة المتحصلة من انخفاض سعر صرف الجنيه.
ثالثاً: الاستثمار الأجنبى: سيؤدى انخفاض سعر صرف الجنيه لخلق بيئة مواتية لجذب الاستثمار خاصة إذا كانت البيئة التشريعية فى ذلك المجال مستقرة حيث يترتب على ذلك انخفاض تكلفة عناصر الإنتاج المحلية وبالتالى انخفاض تكاليف الإنتاج فى ظل وجود سوق استهلاكية ضخمة ولكن ذلك قد يقابلة خوف المستثمرين من صدور تشريعات استثمارية غير مواتية خاصة فى ظل انخفاض مستوى الاستقرار السياسى وعلى الجانب الآخر يضر ارتفاع سعر صرف الدولار بالاستثمارات الأجنبية حيث سينخفض العائد من المشروعات الاستثمارية والمحول لدولار أمريكى مما يجعل المستثمر الأجنبى يحجم عن الاستثمار فى مصر.
رابعاً: قد يرى البعض أن انخفاض سعر صرف الجنيه من شأنه زيادة الإيرادات من قناة السويس من خلال زيادة عبور السفن نتيجة انخفاض تكلفة تلك الخدمة بغيرها من الوسائل الأخرى نتيجة انخفاض سعر صرف الجنيه لكن السفن العابرة لقناة السويس تدفع رسوم العبور بالعملة الأجنبية وبالتالى فلا يوجد تأثير لانخفاض سعر صرف الجنيه على تلك الخدمة.
خامساً: سوف يترتب على ارتفاع سعر صرف الدولار التحول نحو شراء العملات الأجنبية للحفاظ على القيمة التى تتجه نحو الانخفاض نتيجة انخفاض سعر صرف الجنيه وهو ما يعرف بعملية الدولرة وهو الأمر الذى يؤدى لضغوط فى الطلب على الدولار ويساهم فى مزيد من انخفاض سعر صرف الجنيه كما يؤثر على الاحتياطى النقدى بالعملة الأجنبية.
وعلى النقيض من تلك الحجج نجد أن انخفاض سعر صرف الجنيه من شأنه ارتفاع تكلفة الدين الخارجى وأعباء خدمة ذلك الدين حيث يتم سداده بالدولار الأجنبى.
وبالتالى فإن ما تتخذه الدولة من جهود من أجل الحفاظ على سعر صرف عملتها قد يجد ما يبرره حتى وإن استخدمت فى ذلك الاحتياطى النقدى لديها والذى تعانى الدولة من انخفاضه (17.5 مليار دولار أمريكى حتى يونيو 2014 بالمقارنة بـ120 مليار دولار فى إيران و100 مليار دولار فى الجزائر) وهو هدف مبرر اقتصادياً، ويمكن القول أن المساعدات الخارجية وتحويلات المهاجرين لها أثار إيجابية على استقرار سعر الصرف فالمساعدات المالية من دول الخليج فى أعقاب 30-6-2013 وعلى رأسها السعودية والإمارات والكويت كان لها أكبر الأثر فى دعم قدرة الحكومة المصرية على سداد مديونياتها حيث منحت الدول الثلاثة لمصر 12 مليار دولار أمريكى (خمسة مليارات من السعودية، وأربعة مليارات من الكويت وثلاثة من الإمارات العربية المتحدة) بالإضافة لمساعدات مالية بدون فائدة ومنح ومنتجات نفطية وصلت إلى %4.4 من الناتج المحلى الإجمالى لعام 2013، كما دعمت دولة الإمارات مشروعات التنمية فى مصر بمساعدات تعادل %1.1 من الناتج المحلى الإجمالى، كل ذلك رفع القدرة الاقتصادية لمصر وقلل من فرص تعرض ميزان المدفوعات لخلل ضخم، كما ترتب على تلك المساعدات ارتفاع احتياطى النقد الأجنبى وساهم فى استقرار سعر صرف الجنيه فى مقابل العملات الأجنبية.
هذا وسوف يؤدى تدفق الموارد من النقد الأجنبى من خلال المانحين (وهى الدعوة التى أطلقها خادم الحرمين الشريفين) إلى العديد من الأثار الإيجابية التى يأتى فى مقدمتها أن الإعلان عن التزام الدول المانحة بتدبير النقد الأجنبى دعماً للاقتصاد من شأنة زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تعزيز التصنيف الائتمانى لمصر، والحفاظ على زيادة الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية، كما أن المساعدات والمنح هى بديل قوى عن قرض صندوق النقد الدولى الذى تتمثل إيجابيته الوحيدة فى الحصول على شهادة منه بصلاحية الاقتصاد المصرى وقدرته على التعافى مما يساهم فى رفع التصنيف الائتمانى لمصر، وبالتالى فالمساعدات لها دور فى الحصول على قرض الصندوق كما أنها ستكون أكبر من القرض ذاته بخلاف أن الصندوق يطلب شروطاً تقشفية منها خفض الدعم خاصة على المواد البترولية (وهى الخطوة التى بدأتها الحكومة المصرية مؤخراً) وتحرير الأسعار وخفض سعر صرف الجنيه وخصخصة شركات القطاع العام.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن تحويلات المصريين فى الخارج التى قدرتها الجهات الرسمية بـ22 مليار دولار بزيادة عن الفترة المماثلة من العام الماضى والذى بلغت فيه 18 مليار دولار من شأنها أن تؤدى لاستقرار سعر الصرف.
ولكن ما هو مستقبل سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى؟ هل يواصل انخفاضه أم يحقق ثباتاً نسبياً؟، فى رأينا الشخصى أن استقرار سعر صرف الجنيه يمكن أن يساهم فى تحقيقه عدد من الإجراءات منها:
زيادة الوعى الإعلامى بضرورة تدعيم شراء المنتج المحلى على حساب المنتج الأجنبى
زيادة الاعتماد على مدخلات الصناعة المحلية
تشجيع المصريين بالخارج على تحويل دخولهم بالعملات الأجنبية للداخل وفتح أفاق جديدة لهم من أجل الاستثمار
البدء فى إجراءات ترشيد البعثات الدبلوماسية بالخارج التى تمثل عبئاً كبيراً على الدولة حيث يحصل هؤلاء على رواتبهم بالعملة الأجنبية
منح رخص جديدة للشركات العملاقة للعمل بمصر بما يترتب عليه زيادة الدخل وخفض معدلات البطالة.
إعادة توجيه الطاقات الإنتاجية لتنويع مصادر الدخل بالعملة الأجنبية وعدم الاعتماد فقط على مصادر الدخل التى تتسم بالتقلب كالسياحة كما يجب أن يتم توجيه الاستثمار نحو القطاعات ذات القيمة المضافة.