بقلم : عمرو عادلى
باحث فى مركز كارنيجى لدراسات الشرق الأوسط
ليس من قبيل المبالغة القول بأن مؤتمر مارس الاقتصادى يعتبر نقطةً فاصلةً فى مستقبل البلاد المباشر، سواء من حيث فرص الاستقرار السياسى أو التعافى الاقتصادى بعد أربع سنوات من الاضطراب غير المسبوق فى تاريخ مصر الحديث، ومن التباطؤ الاقتصادى وتفاقم مؤشرات البطالة والعجز فى الموازنة والدين العام مع انخفاض معدلات النمو والاستثمار وتضاؤل احتياطيات النقد الأجنبى لأقل من نصف ما كانت عليه فى يناير 2011.
يبدو جذب تدفقات ضخمة من الاستثمارات الأجنبية هو الحل الجامع لأغلب هذه المشكلات الاقتصادية فى المديين المباشر والمتوسط، إذ إن تدفق الاستثمارات الأجنبية بمبالغ كبيرة من شأنه أن ينعكس إيجاباً على ميزان المدفوعات، وأن يصب فى صالح إعادة بناء الاحتياطيات النقدية الأجنبية، بما سينعكس إيجاباً على قوة الجنيه المصري، كما أن الاستثمارات المباشرة من شأنها أن تسهم بشكل رئيسى فى التعافى الاقتصادى من خلال تحفيز معدلات النمو والتشغيل، وبالتالى تخفيض معدلات البطالة وزيادة الطلب الكلي.
يقع فى القلب من تحديات إنجاح مؤتمر مارس التدليل على أن المسار السياسى الذى سلكته البلاد منذ 3 يوليو 2013، حينما تمت الإطاحة بالرئيس الإخوانى محمد مرسى سيقود إلى تشكيل نظام سياسى قادر على التماسك والبقاء وإنتاج سياسات تدعم التنمية الاقتصادية، وقد نجح هذا المسار السياسى فى تمرير وثيقة دستورية جديدة للبلاد، ثم فى عقد انتخابات رئاسية انتهت بتولى المشير عبدالفتاح السيسى رئاسة الجمهورية فى يوليو 2014، ولم يتبق لاستكمال المرحلة الانتقالية الجديدة سوى انتخاب برلمان فى مارس القادم، وهو الأمر الذى قد يشير إلى إتمام إنشاء نظام سياسى بأركانه الدستورية المختلفة، وليس من قبيل الصدفة تأجيل المؤتمر الاقتصادى إلى حين تحديد موعد نهائى لانتخابات البرلمان؛ بغية التأكيد على أن المرحلة الانتقالية قد تمت، وأن إطاراً مؤسسياً قد نشأ، وكلها لوازم للتعافى الاقتصادى ومنح الثقة فى السياسات والمؤسسات للمستثمرين المحليين والأجانب.
بيد أن أحداث الاحتجاج تصاعدت قبيل أسابيع من عقد المؤتمر خاصة فى ذكرى ثورة يناير، والتى شهدت تصعيداً احتجاجياً من جانب قوى سياسية على رأسها الإخوان المسلمون وحلفاؤهم الذين ما لبثوا يتابعون احتجاجهم منذ خلع مرسى قبل سنة ونصف السنة تقريباً، هذا بجانب قوى سياسية أخرى لا ترى نفسها مشمولة بالمسار السياسى الجديد، خاصة مع التضييق الملموس على المجال السياسي، وعلى الحق فى التظاهر والإضراب، وارتفاع وتيرة القمع.وليس بخاف أن القوى المحسوبة على الإخوان المسلمين، والتى يقوم المجال السياسى الجديد باستبعادها بالكامل على خلفية اتهامات بتورطها فى أعمال عنف ومساندة للإرهاب، تسعى لتعميق أزمة النظام السياسى الجديد الاقتصادية والأمنية، ومن هنا كان تصعيدها لأعمالها الاحتجاجية مع اقتراب موعد المؤتمر، والذى ستحاول فيه الحكومة عرض منجزاتها فى مجال السياسات الاقتصادية والاستقرار الأمنى والسياسي، ورغم أن مساعى إفشال المؤتمر تنم عن إستراتيجية صفرية وعدمية ترى أن تعميق أزمة البلاد الاقتصادية من شأنها تقويض أسس النظام السياسى القائم، فإن تطور الأمور مؤخراً قد يشير إلى قصور مبكر فى النظام السياسى مفاده عدم القدرة على احتواء كافة القوى الاجتماعية والسياسية، وعدم القدرة على إدارة الصراع السياسى من خلال المنافسة الحزبية ومن خلال مجال سياسى متنوع، وهى مسائل قد تفاقم من مشكلة الإرهاب الذى تواجهه البلاد، خاصة فى شبه جزيرة سيناء، وقد تؤسس لمرحلة من الاضطراب السياسى تتناقض ومساعى التعافى الاقتصادى على المدى البعيد.
فمع ضرورة استئصال شأفة الإرهاب فى سيناء والوادى، فإن السؤال الرئيسى الذى يواجه النظام السياسى الآخذ فى التشكل مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، هو مستقبل تمثيل التيار الإسلامى بتجلياته المختلفة بعد إقصاء الإخوان المسلمين عن الحكم، فالتيار الإسلامى له جذور عميقة فى التربة المصرية، وليس من الممكن استبعاده بالكامل، ومع التسليم بعدم القدرة على التصالح أو التسامح مع المتورطين فى عمليات إرهاب أو عنف أو المتواطئين على السلام الاجتماعى والاستقرار السياسى والاقتصادى فى مصر، فإن هذا لا يمكن أن يعنى أن استمرار تهميش الإسلام السياسى أو التعامل معه بأساليب أمنية فحسب قد يؤسس لنظام سياسى مستقر، فحتى فى عهد مبارك السابق على الثورة كانت صيغة نظام الحكم تشمل وجوداً ما للتيار الإسلامى، رغم أن وجوده لم يكن قانونياً وكان خاضعاً لضوابط أمنية.
ويضاف لقضية إعادة دمج التيار الإسلامى إشكالية إنشاء مجال سياسى حى ونشط ومتنوع يقبل تمثيل مصالح متفاوتة بما يجعل من النظام السياسى قناة أو وسيطاً لإدارة الصراعات الاجتماعية بشكل سلمى ومؤسسي، وليس هذا ممكناً دون تهيئة المجال أمام نشوء حياة حزبية، وتكوين طبقة سياسية متنوعة المشارب قادرة على إفراز برلمانيين وممثلين محليين وكوادر حزبية وبرامج تملأ الفراغ السياسي، وتحول دون ملئه آجلاً أو عاجلاً بتنظيمات دينية تحمل تصورات أيديولوجية تناقض أسس الدولة الحديثة وتهدد البناء الاجتماعى والاستقرار السياسى، كما كان الحال فى عهد مبارك على نحو حال دون إفراز بدائل سياسية بعد ثورة يناير، وعلى نحو أفضى للاستقطاب السياسى العنيف الذى ميز حكم الإخوان القصير، ومن ثم انهيار المسار السياسى برمته فى يونيو 2013 على وقع احتجاجات شعبية ضخمة، ومع ما مثله هذا من تكلفة اقتصادية وبشرية باهظة لا نزال نتكبدها إلى اليوم.
إن شكل النظام السياسى الآخذ فى التشكل وقدرته على التماسك والاستقرار والعمل بفاعلية قضية غاية فى الخطورة ومفصلية لإنجاح مؤتمر مارس، وما يليه من إجراءات الهدف منها جذب الاستثمارات الأجنبية وتنشيط الاقتصاد وتحقيق التعافى بعد سنوات من التباطؤ والركود والبطالة، وقضية النظام السياسى أشد أهمية على المدى المتوسط من التغييرات فى سياسات الاقتصاد الكلى كسعر الصرف والتضخم والفائدة والعجز المالى والاستدانة، وأهم كذلك من التغييرات التشريعية التى ترمى إلى توفير الضمانات والحوافز اللازمة لجذب رؤوس الأموال وإعادة إطلاق الاقتصاد.