لماذا يعد التفكير الألمانى التقليدى بشأن الاقتصاد الكلى غريباً جدًا؟ وهل له أهمية؟
إجابة السؤال الثانى هى أنه مهم كثيرًا، وجزء من الإجابة على السؤال الأول هو أن ألمانيا أحد الدائنين، وأعطتها الأزمة المالية صوتاً مهيمناً فى شئون منطقة اليورو، وهذه مسألة قوة وليس حق، إذ تعد مصالح الدائنين مهمة، ولكنها مصالح جزئية وليست عامة.
وركزت الشكاوى الأخيرة على السياسات النقدية للبنك المركزى الأوروبى، ولاسيما أسعار الفائدة السلبية والتيسير الكمى، حتى أن وزير المالية الألمانى، وولفجانج شوبل، ادعى أن البنك المركزى الأوروبى يتحمل نصف مسئولية ظهور حزب «البديل من أجل ألمانيا»، المناهض لمنطقة اليورو، وهو ما يعد هجوماً غريبًا.
وتعد انتقادات سياسات البنك المركزى الأوروبى واسعة النطاق، إذ أنها فشلت فى الحد من المديونية، وقوضت الملاءة المالية لشركات التأمين وصناديق المعاشات وبنوك الادخار، وحافظت بالكاد على معدلات التضخم أعلى من الصفر، وأثارت غضبًا حيال المشروع الأوروبى، وباختصار، أصبحت سياسة البنك المركزى الأوروبى تشكل خطرًا كبيرًا على الاستقرار.
وكل ذلك يتوافق مع وجهة النظر الألمانية التقليدية، وفى هذا النهج، يتكون الاقتصاد الكلى المثالى من ثلاثة عناصر: ميزانية متوازنة فى جميع الأوقات تقريبا، واستقرار الأسعار، ومرونة الأسعار.
ويعد هذا النهج منطقيًا بالنسبة لاقتصاد صغير ومفتوح، وفعالاً بالنسبة لدولة أكبر، مثل ألمانيا، مع قدرة تنافسية عالية مع الصناعات القابلة للتداول، ولكن لا يمكن تعميمها على اقتصاد قارة، مثل منطقة اليورو، فما يمكن أن يكون مناسبًا لألمانيا لا يمكن أن يكون مواتيًا لاقتصاد منطقة اليورو الذى يبلغ حجمه ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الألمانى وأكثر انغلاقًا أمام التجارة الخارجية.
ولوحظ أنه فى الربع الأخير من عام 2015، كان الطلب الحقيقى فى منطقة اليورو أقل بنسبة 2% عن الربع الأول من عام 2008، فى حين أن الطلب فى الولايات المتحدة كان أعلى بنسبة 10%، وهذا الضعف الشديد فى الطلب غائب فى غالبية الشكاوى الألمانية.
وصحيح أن البنك المركزى الأوروبى يحاول منع الانزلاق إلى الانكماش فى اقتصاد يعانى من الضعف الشديد فى الطلب، وكما أكد ماريو دراجى، رئيس البنك المركزى الأوروبى، فإن أسعار الفائدة المنخفضة التى حددها البنك ليست هى المشكلة، ولكنها علامة على عدم كفاية الطلب على الاستثمار.
ويؤكد تاريخ الاقتصاد الألمانى منذ إصلاحات سوق العمل فى مطلع الألفية من القرن الحالى أن «الإصلاحات الهيكلية» من غير المرجح أن تحل هذه المشكلة، وحقيقة الاقتصاد الكلى الأكثر أهمية بشأن الدولة هو أنه غير قادر على امتصاص نحو ثلث ادخاراته المحلية فى الداخل، رغم أسعار الفائدة المنخفضة للغاية.
وفى عام 2000، أى قبيل الإصلاحات التى تضمنت خفض تكاليف العمالة ودخل العمال، استثمرت الشركات الألمانية أكثر بكثير من أرباحها المحتجزة، والعكس صحيح الآن، مع تمتع الأسر بفائض وميزانية الحكومة متوازنة، ظهر الفائض الخارجى الضخم.
ولماذا ينبغى أن يكون الآخرون قادرين على تحقيق استفادة مثمرة من المدخرات التى لم يستطع الألمان الاستفادة منها بكل وضوح؟ لماذا ينبغى أن تحقق الإصلاحات الهيكلية، على النحو الذى توصى به ألمانيا، ارتفاعاً فى الاستثمارات تفتقر إليه فى الداخل؟ لماذا ينبغى أن يتوقع المرء تراجع المديونية عندما يكون الطلب وإجمالى النمو ضعيفًا جدًا فى منطقة اليورو ككل؟.
وما حدث بدلاً من ذلك هو تحول منطقة اليورو إلى ألمانيا أضعف، فمن المتوقع أن يتحول رصيد الحساب الجارى فى منطقة اليورو إلى فائض بنحو 5% من الناتج المحلى الإجمالى ما بين عامى 2008 و2016، ومن المتوقع أن يكون هناك توازن أو فائض فى الحساب الجارى لكل عضو، وتعتمد منطقة اليورو على رغبة الآخرين فى الانخراط فى الإنفاق والاقتراض الذى تتجنبه الآن.
وستفشل منطقة اليورو إذا سعت وراء مصلحة الدائنين فقط، فيجب أن تكون السياسة متوازنة، ويعد إصرار البنك المركزى الأوروبى على تفادى الانكماش جزءاً مهماً من هذا الهدف، وتحقيق طلب متوازن أفضل على الصعيد القومى هو الجزء الآخر، فيعد النقص الهائل فى الطلب (بالنسبة إلى العرض الكلى) فى أكبر اقتصاد فى منطقة اليورو مشكلة كبيرة، ويجب أن يكون «إجراء الخلل المفرط» فى الاتحاد الأوروبى أكثر أهمية من الفوائض فى ألمانيا.
وتعتبر أفكار ومصالح ألمانيا ذا أهمية كبيرة بالنسبة لمنطقة اليورو، ولكن لا ينبغى أن تحدد كل شىء، وإذا اقتنع الألمان أن هذا يُضعف شرعية المشروع الأوروبى على نحو قاتل، ينبغى أن يستخدموا خيار خروجهم، وسيترتب على ذلك، أيضاً، قبول اضطرابات ضخمة على المدى القصير.
ولكن، طالما أن البلاد باقية داخل منطقة اليورو، يتعين عليها، أيضًا، قبول فكرة أن البنك المركزى الأوروبى لديه وظيفة عليه القيام بها، وإذا فعل الأخير ذلك، فلن يجعل منطقة اليورو تعمل بشكل جيد، لكن من المؤكد أنها مساهمة حيوية لتحقيق تلك الغاية.
المصدر: فاينانشيال تايمز
إعداد: نهى مكرم