لا نريد تقشفاً قبل أن نحصى مواردنا وثرواتنا بشكل دقيق، بعد تقدير حجم ومواطن الفاقد والهدر والحد منها قدر المستطاع. لا نريد انكماشاً بينما نطمع فى تحقيق معدلات نمو للناتج المحلى الإجمالى تفوق ضعف المتوسط العالمي، خاصة إذا كان هذا النمو محفّزاً فى الأساس بالإنفاق الاستهلاكى وليس بالاستثمار أو التصدير مثلاً كالصين.
تخيل أنك تحاول أن تقلل من استهلاك السيارة للوقود بينما خزان الوقود ذاته مثقوب! كيف يمكن أن تعرف مقدار ما هو مطلوب لحركة السيارة، إن لم تقم أولاً بسد هذا الثقب. رسالة التقشف أيضاً لا يرحب بها المستثمر عندما يتلقّاها، هو يستهدف سوقاً كبيراً، ونمطاً استهلاكياً محدداً، ربما يزعجه أن يكون هذا النمط محكوماً بقيود التقشف «الجبرية» المفروضة من أعلى.
عندما طرح التقشّف بديلاً عن زيادة وتنويع الموارد كان يستهدف جانباً محدوداً من مصروفات الحكومة. الموازنة العامة يفنى ثلثها فى خدمة الدين، ونصفها موزَّع بين الأجور والدعم، ولا يبقى سوى القليل مما يخصص للاستثمار والاستهلاك الحكومى. ولا يتصور أن ترشد الحكومة من استثمارها الذى هو محدود بالفعل ولا يتعدّى 107 مليارات جنيه أى نحو 12% فقط من مصروفات موازنة 2017/2016 (بزيادة 50% على العام السابق) أما الإنفاق الاستهلاكى والمصروفات الأخرى فهما المكون الوحيد الذى يجوز التخفيض فيه، ولا أحد يعارض التخفيض من عقود المستشارين عدداً وقيمة، والحد من النفقات التى تعكس بذخ الوزراء وكبار المسئولين من أساطيل المركبات الخاصة وامتيازات الحج والعمرة والمصايف.. وغيرها من مصروفات تقدّر بالمليارات، ما دام أن العائد مقابل التكلفة يكاد يكون صفراً فى أحسن الأحوال، لأن هناك عائداً سلبياً يمكن رصده فى الوفورات السلبية والإشارات السيئة التى تلقى بها تلك المصروفات فى نفوس الطاقات المنتجة فى مختلف القطاعات.
قرار التخفيض من البعثات الخارجية بحد أدنى 50% مع استثناء وزارة الخارجية يحصر المخاطبين بهذا القرار فى بعثات السلك التجاري، الذى لا يمثّل أكثر من 5% من إجمالى البعثات، وكذلك البعثات المتخصصة من وزارتى السياحة والثقافة والتى تمثل مجتمعة نسبة أقل، وبالتأكيد وزارة الدفاع غير مخاطبة بالقرار نظراً للطابع المستقل لموازنة الدفاع. إذا نظرنا بصورة إجمالية إلى العائد مقابل التكلفة فسوف نجد أن إجمالى ميزانية السلك التجارى لم تزد على 20 مليون دولار عام 2015، بينما ساهمت تلك البعثات بدور فعّال وملحوظ فى توقيع عقود صادرات بقيمة 840 مليون دولار، ناهيك عن جذب الاستثمارات وسياحة المؤتمرات والوفود التجارية التى تعد أيضاً مورداً سياحياً معتبراً.
العائد مقابل التكلفة يلعب إذن فى مصلحة البعثات التجارية بشكل عام، واتخاذ قرار بشأن تخفيض البعثات يستلزم دراسة تفصيلية لكل مكتب من مكاتب التمثيل الدبلوماسى على حدة، وهنا يظل معيار الكفاءة وتقييم الأداء هو الأهم فى اتخاذ القرار، ولا علاقة له بالتخفيض بل علاقته قائمة بالترشيد الذى هو قرين عملية مستمرة للتقييم الفردى والمؤسسى ينبغى أن تكون حاضرة فى كل مؤسسات الدولة بادئ الرأي. تبعية التمثيل التجارى للقانون الحاكم للسلك الدبلوماسى لم تشفع له فى الاستثناء من هذا القرار شأن بعثات وزارة الخارجية، لكن الأولى بالشفاعة فى هذا المقام حسن الأداء وكفاءة التشغيل، والتى تشير بوضوح إلى تميّز البعثات التجارية.
الكتاب الدورى الذى صدر عن رئاسة الوزراء وكان سبباً فى إثارة هذا الموضوع مَسّ جانباً مهماً فى مادته الثالثة، وهو ما يتعلق برفع الكفاءة، وهى فى رأيى قلب وعقل مفهوم الترشيد، وقد كانت موضوعاً مهماً وحاضراً على مائدة لقاء رئيس الوزراء بثمانية خبراء اقتصاديين شرفت بأن كنت أحدهم، كما شرفت بعرض مسألة رفع كفاءة الخدمات والمؤسسات كأحد أهم صور الإدارة بالمثل المطلوبة من الحكومة قبل مطالبة الشعب بالترشيد.
تطبيق نماذج إدارة المخاطر المؤسسية تحمل الإجابة عن كثير من الأسئلة المطروحة فى الفضاء الإعلامى، وفى مؤتمر الشباب الذى عقد مؤخراً بشرم الشيخ، وحمل صبغة سياسية بدعوته لشباب الأحزاب وعدم وجود معيار شفاف فى عملية المشاركة. الأزمات المتلاحقة التى تضرب الاقتصاد الوطنى بغير استعداد مناسب، والفاقد الذى تناولته فى مقدمة المقال، وتراجع كفاءة المؤسسات.. كلها مظاهر يمكن التعامل معها وفق ضوابط إدارة المخاطر المؤسسية لو تم تفعيلها بأسلوب علمي.
د. مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر