أكاد أن أفقد صوابى بعدما طالعت أخبار بلاغات ضحايا جرائم نصب تحت ستار توظيف الأموال بلغت 10 حالات على الأقل فى خلال شهر يناير الجارى، ناهيك عن الحالات المماثلة خلال العام الماضى بأسره.
عناوين الأخبار كلها متشابهة، والعامل المشترك بينها هو سقوط «مستريح» جديد، ثم ينسب اسم المحافظة أو المدينة الى جانب لقب «المستريح»، ومن أمثلة هذه العناوين «مستريح المنوفية استولى على 18 مليون جنيه من المواطنين»، «مستريح قنا» ينصب على 30 شخصاً ويسرق 20 مليون جنيه، “حبس مستريح المحلة على ذمة التحقيق لاستيلائه على 20 مليون جنيه”.
ترجع أسطورة “المستريح” إلى القضية الشهيرة فى بداية عام 2016 المتهم فيها رجل الأعمال أحمد مصطفى إبراهيم وشهرته «أحمد المستريح» أو “ريان الصعيد”، الذى وجهت إليه تهمة الحصول على أموال ضخمة تقدر بنحو 54 مليون جنيه من المواطنين بصعيد مصر وعدد من المناطق الأخرى، بزعم توظيفها فى استثمارات مالية تدر عوائد مالية شهرية كبيرة عليهم، والاستيلاء على تلك الأموال وعدم ردها، ومنذ ذلك التاريخ تكررت بلاغات النصب من مواطنين فى مختلف المحافظات، وفى كل مرة يطل علينا “مستريح” جديد مخلفاً وراءه عدد كبير من الضحايا.
دلونى على عاقل واحد يستطيع أن يشرح لى هل يوجد على وجه الأرض نشاط تجارى شرعى يدر أرباحاً للمستثمر تتراوح بين 35% و50%؟
إذا كان هذا هو الحال، فإنى أناشد رئيس الوزراء اغتنام فرصة وجود عقلية تجارية فذة وأن يأتى بهذا “المستريح”، لكى يتولى منصب وزير الاستثمار ويشرف على المجموعة الوزارية الاقتصادية.
للأسف “المستريحين” وغيرهم من النصابين الأقل شهرة مازالوا يعيشون بيننا بداية من عصر السحرة الكبار مثل الريان والسعد أبطال مسلسل توظيف الأموال، لقد سحروا الناس بوعود براقة عن تحقيق عوائد استثمار تفوق البنوك “الربوية” مستغلين الدين ستاراً لمخططاتها الشيطانية، وبين مطرقة استمرار انفلات الأسعار وارتفاع نسبة التضخم، وانخفاض عائد الاستثمار الحقيقى فى البنوك، وسندان المخاطرة بالاستثمار فى البورصة لم يجد المواطن سبيل الا تسليم “المستريح” تحويشة العمر ثم ينام قرير العين إلى أن يستيقظ على كابوس ضياع ملايين الجنيهات سرقها النصاب من الحالمين بالاستثمار “الحلال” الذى سيعينهم على تحقيق مطالبهم الحياتية فى ظل عدم وجود منافذ أخرى غير البنوك والبورصة لتوظيف أموالهم.
التاريخ يعيد نفسه، تعود ظاهرة توظيف الأموال مرة أخرى إلى الساحة وكانت قد بدأت فى الثمانينيات نتيجة انخفاض أسعار الفائدة، وارتفاع أسعار الذهب، وركود السوق العقارية، فضلاً عن ضعف أوجه الاستثمار، ومع انخفاض سعر الفائدة وارتفاع معدل التضخم تتآكل المدخرات بشكل مستمر ليصبح سعر الفائدة الحقيقى بالسالب بتأثير التضخم وانخفاض قيمة الجنية.
من المسئول عن هذه الكارثة المتكررة؟ لو طرحت هذا السؤال على عدة أشخاص ستحصل على إجابات مختلفة.
يرى البعض، أن المواطن الذى سلم أمواله إلى النصاب هو المسئول لأنه كان مدفوعاً بالجشع والبحث عن الثراء السريع بدون تعب متجاهلاً كل ما حدث فى الماضى من كوارث توظيف الأموال والتحذيرات التى تصدرها مختلف الجهات المسئولة، بل والأكثر مدعاةً للدهشة أن الضحية اختار بمحض إرادته وهو مغمض العينين تحت تأثير مخدر الوعود بأرباح خيالية، أن يسلم أمواله الى النصاب دون أن يفكر قليلاً عن ما هو طبيعة النشاط الاقتصادى الذى يحققه “المستريح” بحيث يمكنه من توزيع نسبة عائد تفوق غيرها من أوجه الاستثمار المشروعة؟ هكذا، ينطبق المثل القائل: “وراء كل نصاب طماع”.
وفريق آخر يرى أن الدولة هى المسئولة لتقصيرها فى الدور التوعوى، مما أدى لظهور “الاقتصاد الخفى” وشركات توظيف الأموال، كان يجب على الدولة أن تشجع الاستثمار وتسهل تأسيس مشروعات يقبل عليها المواطنين بما يتناسب مع بيئتهم وثقافتهم، أما أنا فأرى أن المسئولية مشتركة بين جميع الأطراف.
المواطن يجب ألا يستسلم لوعود وهمية عن تحقيق أرباح عالية فى حين أن أى مشروع تجارى لا يحقق أكثر من 20% أرباحاً، آخذاً بعين الاعتبار التكاليف ونسبة المخاطر، ألم يستوعب المواطن الدروس المستفادة من الثمانينيات حتى الآن وقصص النصب الشهيرة؟
والدولة مسئولة عن عدم توفير مشاريع مدروسة تناسب مستويات مختلفة من المواطنين.، كان يجب على الدولة أن تشرع فى الطرح للإكتتاب العام نسبة من حصتها فى الشركات والبنوك التى تساهم الدولة فى رؤوس أموالها، أما البنوك فهى مسئولة أيضاً عن عدم توفير الأوعية الادخارية المناسبة لتجميع مدخرات المواطنين بعوائد معقولة تحقق التوازن بين هدف الربحية ومراعاة مصلحة المستثمر الصغير، فعلى الرغم من أن البنوك تدار على أساس الربحية، إلا أنه لا ينبغى إغفال الجانب الاجتماعى فى أعمال البنوك.
وأخيراً، متى وأين تتوقعون أن نسمع عن «مستريح» جديد؟
