الاقتصاد العالمى بات مشحوناً بدرجات متزايدة من عدم اليقين، وهو الأمر المرادف للمخاطر العالية، هذا النوع من المخاطر السياسية المتعلقة باستقرار الوضع السياسى بالداخل الأمريكى غير معتاد فى تلك البقعة من العالم. تداعيات الخلاف المؤسسى داخل الولايات المتحدة الامريكية منذ تولّى الرئيس الأمريكى الجديد للسلطة طالت العديد من الشركات والمؤسسات، بل إن تداعيات تغريدات الرئيس (وحدها) منذ أن كان مرشحاً وبعد أن أقسم اليمين نالت من أسهم شركات عابرة للجنسيات، وأحدثت اضطرابات شديدة بالبورصات.
كذلك ساهمت تصريحات «ترامب» فى توتر العلاقات مع شركاء الحدود (المكسيك) الذين تساهم قوة العمل الواردة منهم فى تثبيت دعائم الاقتصاد الأمريكي. ولم تسلم الصين ثانى أكبر اقتصاد فى العالم من تلك التصريحات، وكان لعدد من الدول الإسلامية وفى مقدمتها إيران نصيب الأسد من المواقف العدائية لترامب، حيث صدر قراره الشهير بحظر مواطنى سبع دول من دخول الولايات المتحدة، وهو القرار الذى فجّر خلافاً مؤسسياً كبيراً، وصدر بشأنه حكماً بالتجميد من قبل القضاء الفيدرالى، ثم رفض طعن الرئيس على الحكم..وسائل الإعلام تشهد تصنيفاً من قبل «ترامب» وفريق عمله، ويعتبر إسكاته لمراسل شبكة سى إن إن سابقة غريبة أذّنت بصدام جديد مع مؤسسة الرأى فى دولة الحريات!.
كل ذلك يحدث فى دولة تملك أكبر قوى عسكرية فى التاريخ البشرى، وتملك اقتصاداً هو الأكبر والأكثر تأثيراً على حركة الاستثمار والتجارة العالمية، وفى ظل تباطؤ الاقتصاد العالمى المشفوع بتباطؤ الاقتصاد الصينى وسائر مجموعة دول «بريكس» الواعدة (باستثناء الهند المرشحة للحلول محل الصين فى قيادة النمو العالمى)، وتراجع حركة التجارة، وهبوط أسعار النفط لمدة عامين قبل أن تعاود الارتفاع التدريجى مجدداً.
سياق العلاقات الدولية لا يقل توتراً، خاصة فى محيطنا الإقليمى الذى تشتعل فيه معارك مباشرة وأخرى بالوكالة فى كل من سوريا واليمن وليبيا والعراق، وتطل فتنة سنية شيعية بغيضة برأسها فى تلك المعارك، ينفخ فيها على الطرفين كل من المملكة العربية السعودية وإيران فى صراع واضح على قيادة منطقة الشرق الأوسط، بينما تنعم إسرائيل بسلام هانئ غير مسبوق منذ عام 1948. اليمين المتشدد يكسب أرضاً جديدة فى انتخابات أوروبا فى أعقاب خروج مخيف لبريطانيا من الاتحاد الأوروبى، ونبؤات بتفسّخ الاتحاد لصالح محور جديد عابر للأطلنطى يتخذ من الحرب ضد الإرهاب ذريعة للنكوص عن المسيرة التاريخية لإطلاق الحريات وصيانة الحقوق.
كانت تلك مقدمة لابد منها لقراءة المشهد العام بتبسيط قد يبدو مخلاً، لكنه ومراعاة لحجم المقال يبرز دوراً محورياً يلعبه «ترامب» لتدشين انقلاب عنيف فى مسار حركة التاريخ، ربما يكون عفوياً ومحفّزاً بضغوط الاقتصاد والخوف من الإرهاب فعلاً، لكن أغلب الظن أنه محفّز بنظرية «مالتس» الحتمية التى تصدق دائماً كلما اتسعت الفجوة بين الموارد المحدودة لهذا الكوكب وبين نمو السكان، نتيجة لزيادة الموارد بمتوالية عددية (1 2 3 4..) ونمو السكان بمتوالية هندسية (2 4 8 16..). ورغم أن التكنولوجيا الحديثة كان لها أثر مهم فى نمو الموارد وكفايتها على نحو مطمئن مع ثورة المعلومات، لكن الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية كانت ضرورية مع الأسف لتقليص الفجوة المذكورة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). وبعد أن دفع العالم فاتورة باهظة للحروب العالمية المدمرة دماراً شاملاً لم يكن هناك بد من إشعال حروب إقليمية محدودة تعيد التوازن بين السكان والموارد، على حساب سكان الشرق الأوسط طبعاً، ومن ناحية أخرى تصرّف شيئاً من الاحتياطى الفعلى للاقتصاد العالمى، وهو السلاح الذى ينفق فى إنتاجه وتجارته تريليونات الدولارات، وتنقل عبره (هو والدواء) ثروات الخليج البترولية إلى الغرب الأمريكى والأوروبى.
ليست هذه نظرية مؤامرة، وإن كنت أتمنى أن تكون محض خيال، لكن أهل الأرض ظنوا أنهم قادرون عليها وأكثرهم يعتقد أن الله غير موجود، وأن عليه أن يلعب دور الله (حاشاه) لتحقيق توازن بين الموارد والحاجات، خاصة بعد تقدّم الطب وتراجع معدلات الوفيات الطبيعية، وتقدّم التكنولوجيا التى تتنبأ بالكوارث الطبيعية ومن ثم تراجع الوفيات الناتجة عن تلك الكوارث..لا بديل إذن (وفقاً لهؤلاء) عن «هندسة» وضع جديد، بخلاف الحروب الإقليمية التى لم تعد تحقق الغرض المأمول،بل ونتج عنها إرهاب قابل للتصدير لأصحاب الهندسة، الوضع الجديد تحركه بواعث الاقتصاد كما هى الحال دائماً، لكن لاعبيه مختلفين عن حكماء ما بعد الحرب العالمية الثانية. اللاعبون الجدد يجب أن يتسموا بالرعونة والعنف وعدم التردد فى اتخاذ قرارات استبدادية تسئ إليهم لكنها تحفظ للمبادئ والمفاهيم وقارها، إذ إن الحضارة الغربية العريقة ما زالت محفوظة فى ضمائر العقلاء، الذين تأخروا هنيهة لإفساح المجال لحفنة من «الكنّاسين» الذين لا بأس من لعنهم فى كل كتاب بعد إتمام مهمتهم التاريخية بنجاح!
الاقتصاد الأمريكى أكبر من أن يسقط، وتداعيات الفترة «الترامبية» هناك أجهزة ومؤسسات تعمل بحرص على احتوائها، لكن أحداً لا يجزم بعدم انفراط العقد.. وللحديث بقية
د/ مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر