
المطالبة المتكررة للحكومة بضبط الأسعار كانت تستهدف وبشكل واضح إعمال الرقابة القانونية على الأسواق بغرض حماية المستهلك من الغش والتدليس والممارسات الاحتكارية وكل ما من شأنه أن يرفع تكلفة المنتج النهائى على المستهلك دون أن يحصل على المنفعة المستحقة من السلعة أو الخدمة.
لكن عوضاً عن ذلك لوحظ أن كثيراً من الهيئات «الاقتصادية» التى تحقق خسائر وتحصل على صافى ما يقرب من 37 مليار جنيه من موازنة الدولة على سبيل الدعم (الحساب الختامى لعام 2015-2016)، فضلاً عن الشركات العامة التى تحتكر تقديم خدمات حيوية للجمهور لم تجد حلاً للخسائر التى تحققها غير رفع ثمن الخدمات المقدمة للجمهور!
صحيح أن رفع سعر تذكرة ركوب المترو أو الأتوبيس العام أو كيلووات الكهرباء.. يمكن أن يعوّض نقص الإيرادات، لكنه بالتأكيد ليس الحل الوحيد أو المستدام، بل لا ينبغى أن يكون الحل الأول والأسهل الذى ينتهى إليه المسئول، خاصة فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة يصعب خلالها التحكم فى الأسعار المنفلتة للسلع والخدمات المقدمة من القطاع الخاص، وفى ظل واقع لا لبس فيه لاحتكار الدولة لتلك الخدمات ومن ثم عدم القدرة على تحديد السعر التنافسى للسلعة أو الخدمة والذى بكل تأكيد ينخفض إلى أدنى مستوياته ويقترب من التكلفة مع اكتمال المنافسة علماً بأن المنافسة من شأنها أيضاً رفع كفاءة التشغيل وتخفيض الهدر إلى أدنى مستوياته لإنتاج السلع والخدمات بأسعار يمكنها الرسوخ فى مواجهة المنافسة العنيفة من القطاع الخاص.
فإذا كان رفع أسعار الخدمات مصحوباً بوضع احتكارى واضح، وبشك مبرر فى كفاءة التشغيل، وهدر فى بنود الرواتب والمكافآت، ونقص التدريب، وفشل التسويق والاستثمار.. فلا يمكن الجزم بأن سبب الخسائر هو تدنّى الأسعار، بل من المؤكد أن رفع الأسعار والحال كتلك سوف يسفر عن إيرادات سرعان ما يلتهمها الفشل والإخفاقين المالى والإدارى مجدداً.
لماذا أدفع تكلفة وقوف عامل على كل ماكينة تذاكر للنظر فى التذكرة؟ هذا العامل هو بطالة مقنعة يحمّل راتبه (أو بالأحرى إعانة بطالته) على الركّاب.. لماذا أدفع مكافآت وأجور عن خدمات لا تقدّم بكفاءة نظراً لتراجع إنتاجية العامل وتكاسله وشعوره أنه موظّف عام ولا يحق لأحد محاسبته على التقصير؟!.. لماذا أدفع تكلفة مكافآت المستشارين فى شركة الكهرباء وثمن سرقة التيار وإنارة مصابيح الطرق نهاراً وغياب المنافسة عن إنتاج وتوزيع الكهرباء؟!
الدفع بأن ثمن تذكرة المترو يجب أن يرتفع لأن تذكرة الأتوبيس ارتفعت عبر سنوات بمعدّل أسرع، ولأن التوكتوك تكلفته أعلى! هو دفع باطل يغفل كثافة الاستهلاك، ويؤصّل لسوابق الاستغلال التى يمارسها محتكرو خدمات النقل الخاص الذى تغيب الدولة عن تغطيته، بل ويشرعن وسائل مواصلات لا ينبغى أن تعمل أصلاً فى ظل نقص عوامل الأمن والسلامة بل والمنطق الرشيد!
خدمات النقل العام هى عنصر أساس لنجاح أى دولة ولو أن ارتفاع ثمن تذكرة المترو كان مصحوباً بتغيير شامل فى إدارة المنظومة لشعرنا بأمل فى التحسّن المستدام والذى يسفر فى النهاية عن تخفيض التكلفة وربما تقديم اشتراكات ركوب لفترات أطول بأسعار أقل نسبياً لفئات المجتمع المختلفة مع مراعاة تفاوت القدرات، وربما جاء مع التغيير الشامل تحسّن ملموس فى مستوى الخدمات، وميكنة الكثير من التعاملات، وإعادة تأهيل وتخصيص العمالة بصورة أكثر إنتاجية والاستغناء عن العمالة الزائدة بخطط منصفة للمعاش المبكّر.
خدمات الكهرباء والمياه والغاز.. يجب أن تخضع لاعتبارات اجتماعية أولاً نظراً لأهميتها الاستراتيجية، ثم تخضع لاعتبارات اقتصادية تتحقق معها كفاءة الإنتاج والتوزيع والإدارة الفنية والإدارة المالية بما ينعكس فى النهاية على المستهلك النهائى بانخفاض الأسعار وبعروض لاستهلاك فوائض الإنتاج، كما يحدث الآن فى الدول المتقدمة.
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر