لو كنت من جيل مراهقى الثمانينيات فستذكر جيداً أسماء مثل أحمد الريان، وأشرف السعد، وغيرهما من الذين اشتهروا وقتها بابتداعهم مؤسسات لُقبت بشركات توظيف الأموال، وكيف ضحك هؤلاء على آلاف المواطنين واستولوا على «تحويشة العمر» منهم بدعوى أنهم سيدفعون لهم أرباحاً طائلة تتعدى العشرين بالمائة وهى نسبة تزيد كثيراً على ما يمكن أن يجلبه أى مشروع صناعى أو تجارى بالعقل والمنطق والورقة والقلم. أما فى النهاية فلم يتبق لا توظيف ولا أموال، لا الفائدة المهولة ولا أصل الوديعة من أساسه.
وما أشبه اليوم بالبارحة حيث ظهرت لنا فى الآونة الأخيرة مجموعة لا بأس بها ممن أطلق عليهم الإعلام «المستريحين» فأصبح هناك على سبيل المثال «مستريح المنوفية» و«مستريح الموظفين» و«مستريح قنا» و«مستريح كفر الشيخ» إلخ وجميعهم يلعبون نفس اللعبة الدنيئة القديمة ويستغلون طمع البعض فى جنى مبالغ خيالية دون بذل مجهود ويوهمونهم بأنشطة خرافية ليس لها وجود كى يتحقق من ورائها الهدف المنشود.
إلى هنا والموضوع طبيعى بدرجة ما، بعض ضعاف النفوس من محبى المال يقعون فى شراك البعض الآخر من النصابين ومحبى المال أيضاً.
قصة مكانها صفحة الحوادث وأروقة المحاكم ليس إلا. ولكن أن يتحول الريان ليصبح وزيراً وأن تتحول الحكومة نفسها إلى «مستريح» كمؤسسة وليس كفرد، فهذا أمر مختلف تماماً.
فلا يوجد فى الحقيقة فارق جوهرى يُذكر ما بين «مستريح» المحافظة الفلانية أو الفئة العلانية الذى يجمع المال من الناس ويعدهم بفوائد تزيد على عشرين بالمائة وبين حكومة تصدر سندات وأذون خزانة تصل فوائدها حالياً إلى 17% و19% على التوالى أى ما يقترب بشدة من الحد الأقصى لأنجح المشروعات التجارية أو الصناعية وأكثرها حظاً وهى فى النهاية حكومة عليها العديد من الالتزامات والنفقات التى لا تدر ربحاً بطبيعتها.
ويتخذ الأمر فى أيامنا هذه من بعد ذلك أحد مسارين لا ثالث لهما: إما أن يكون مشترى أوراق الدين الحكومية هذه مستثمراً أجنبياً يقوم بمتاجرات قصيرة الآجل (أى بالأصح مُضارب) يشترى فى أوقات ارتفاع سعر الدولار ويبيع بمجرد انخفاضه كى يستفيد من فارق العملة وتخسر الدولة ما تخسره أو أنه سيحتفظ بما اشترى ليحصد فى النهاية الفوائد ويرفع بذلك من الدين العام بشكل مؤلم ويدفع الحكومة دفعاً إلى طبع المزيد من النقود الورقية دون غطاء.
المؤكد أننى أتفهم جيداً حاجة الحكومة لاتخاذ إجراءات لامتصاص أكبر قدر سيولة ممكن من السوق، خاصة بعد تحرير سعر صرف الدولار فى نوفمبر الماضى، بهدف كبح جماح التضخم المتفاقم وأتفهم أيضاً لجوءها إلى أوراق الدين الحكومية لسد عجز الموازنة ولو جزئياً ولكن ما يصعُب علىَّ فهمه هو أن تكون الحكومة على مثل هذه الدرجة من قِصر النظر بحيث لا ترى – أو لا تريد رؤية – أن مسلكها هذا هو مُسكن مؤقت بالكاد وليس علاجاً وسيزيد على المدى الطويل من أعراض المرض بدلاً من تخفيفها لأن العجز فى الأعوام المالية التى تستحق فيها هذه الأوراق بفوائدها– قريبة كانت أم بعيدة – سيرتفع لأرقام خرافية والتضخم سيتخذ أبعاداً فلكية وهو ما يعنى عملياً أن مكاسب الفوائد ستتآكل إلى ما تحت الصفر على خلفية زيادات مطردة فى تكاليف المعيشة وهكذا تخسر جميع الأطراف: المستثمرن والدولة والشعب والأخير أقلهم قدرة بالطبع على التعامل مع خسائر جديدة بعدما كوته نار الأسعار مراراً وتكراراً على مدار الأعوام المنصرمة.
الاقتراض الحكومى ليس عيباً بالطبع ومعمول به فى دول كثيرة ولكن العيب كل العيب هو استخدام هذه الأداة لخلق سيولة وهمية غير موجودة فى الواقع وبالتالى ضرب هيكل الاقتصاد فى مقتل وقت أن تنكشف اللعبة.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى