
فى 11 أبريل عام 2014، خرجت علينا الصحف ببيان من وزارة التموين والتجارة الداخلية، كان ملخصه: «قال الدكتور خالد حنفي، وزير التموين والتجارة الداخلية، إن الوزارة أعدت خطة لإنشاء بورصات سلعية فى جميع محافظات الجمهورية بهدف تداول السلع عبر العرض والطلب، الذى يؤدى لتوافر السلع بكميات كبيرة وبأسعار مخفضة، لتكون فى متناول جميع المواطنين وخاصة محدودى الدخل. وأكد الدكتور خالد حنفى، خلال اجتماع مع الدكتور مدحت نافع، مدير المخاطر بالبورصة المصرية -لعرض عدة نماذج لبورصات سلعية متطورة وخبرات الدول فى هذا المجال- أن إنشاء بورصات سلعية سوف يؤدى إلى تنظيم وضبط إيقاع تداول السلع الزراعية وبأساليب اقتصاد حديثة متبعة عالمياً».
كانت هذه هى المرة الأولى التى يصدر فيها تصريح بشأن البورصات السلعية من وزارة التموين والتجارة الداخلية، إذ كان الملف برمته فى سوق المال ثم هيئة الرقابة المالية التى صرّحت قياداتها غير مرة بأن مصر غير مؤهلة لإقامة بورصة سلعية الآن. لكن ملف البورصة السلعية لم ينتقل إلى وزارة التجارة الخارجية والتى كان وزيرها آنذاك الدكتور منير فخرى عبدالنور.
السبب فى ذلك أنى توسمتُ فى الدكتور خالد حنفى الحماس اللازم للانطلاق بالمشروع، فأردت أن أساهم بتقديم مشروع يخدم مصر، مستثمراً خبرة متراكمة فى تقنيات تنظيم تداول العقود، اكتسبتها من سنوات الاحتكاك ببورصات الأوراق المالية الكبرى واتحاد البورصات العالمية ومنظمة الأيوسكو، التى كنت، ولا أزال، أشارك فى اجتماعات بعض لجانها. كما استطعت من خلال جولات لى بسنغافورة وماليزيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من بلدان، الوقوف على تجارب تلك الدول فى إقامة بورصات ناجحة لتداول العقود السلعية، وكنت طرفاً فى مفاوضات اشتملت على ممثلى بورصات أجنبية بغرض بحث أطر الشراكة لإقامة بورصة سلعية عابرة للجنسيات. حقيقة، لا أحب أن أذكر تفاصيل تلك الخبرات كونها ملكاً لجهة عملى، بل إننى، حينما قصدت وزير التموين، لم أكن أمثّل إلا نفسى كخبير اقتصادى، ولم أذكرها الآن إلا دفعاً لأى شبهة تخص النوايا أو المهنية.
منذ ذلك التاريخ قمت بإعداد أكثر من ملف لتدشين بورصة سلعية مصرية كبرى، وصفها الوزير بأنها ستكون «أكبر» بورصة فى المنطقة! بينما تكرر رفضى الإسراف فى استخدام «أفعل التفضيل» لدى وصف مشروع لمّا يكتمل بعد، بل لم يبدأ على الإطلاق. وتجدر الإشارة إلى أن أحد الملفات التى قمت بإعدادها خلال أشهر التعاون مع الوزارة كان عرضاً تقديمياً طلبه الدكتور خالد حنفى على عجل ليرفعه إلى رئيس الجمهورية بتاريخ 14 سبتمبر 2014، وقد اشتمل العرض على خبرات دولية وخطة عمل أولية لمشروع إنشاء بورصة السلع والخدمات تضمنت أدق التفاصيل، ومنها بدائل الشراكة مع إحدى البورصات الكبرى أو الناشئة، ونظام التداول المحتمل ونظم تطوير المخازن وآليات تفعيل بورصة حاضرة وأخرى للعقود، وبدائل التسوية النقدية والعينية لتلك العقود. حتى موقع إقامة البورصة تضمَنَه المخطط، وقد اقترحت أن يكون فى إقليم قناة السويس، للاستفادة من الموقع الاستراتيجى والخدمات اللوجستية المزمع إقامتها، وكان اقتراح الوزير فى البداية إقامة البورصة السلعية فى دمياط، بينما عرض رئيس اتحاد الغرف التجارية إقامة المشروع فى البحيرة، وفى اليوم التالى مباشرة لإرسالى العرض التقديمى للوزير (وجميع المراسلات موثّقة) صدر عن الوزارة بيان جديد جاء فيه «بحث الرئيس عبدالفتاح السيسى، رئيس الجمهورية اليوم على مدى أكثر من ثلاث ساعات مع الدكتور خالد حنفى، وزير التموين والتجارة الداخلية، عدة موضوعات مهمة تتعلق بتحويل مصر إلى مركز لوجستى عالمى لتخزين وتجميع وتداول الحبوب والغلال، فضلاً عن إنشاء البورصات السلعية. وأكد الدكتور خالد حنفى، وزير التموين والتجارة الداخلية، أنه بحث أيضاً مع الرئيس السيسى إقامة أول وأكبر بورصة سلعية فى مصر والشرق الأوسط، وإنشاء أول مدينة للتجارة والتسوق وهى الأولى من نوعها عالمياً وذلك بمنطقة قريبة من محور قناة السويس الجديدة».
وقد اشتملت الدراسة التى أعددتها لصانع القرار على أسباب صعوبة التسوية العينية لتعاملات البورصة السلعية، ومشكلات التخزين، ومعايير جودته، وصعوبات التسليم العينى التى لا يدركها إلا من تعامل مع بورصات سلعية وعرف المشاكل الناشئة عن إقامتها.
الاجتماعات، التى حرصت على أن تكون شاملة لكثير من التفاصيل، أهدرت معظم ساعاتها فى التغطية الإعلامية! ثم أهدر وقت فريق العمل المعاون لى فى إعداد بيانات صحفية عن إنجازات لم يكن تحقق منها شيء حتى حينه! ولذا اقترحت التفرّغ للعمل على المشروع؛ لأن فريق العمل بالوزارة يحتاج إلى إشراف مستمر، ووافق الوزير وطلب ندبى بخطابات رسمية موثّقة لكن تعثّر الأمر لعدم موافقة الوزارة على تحمّل أعباء الندب المالية!
لن أخوض فى مزيد من التفاصيل خاصة وقد رحل الوزير، ورحلت معه الفكرة كلها!، لكن اليوم وبعد مرور نحو ثلاثة أعوام، ما الذى جّد فى مشروع البورصة السلعية؟ أذكر أننى أثرت الموضوع فى معرض حديثى عن أدوات ضبط الأسواق فى أحد البرامج الحوارية المهمة، وكان على الهاتف عضو فى مجلس النوّاب تلقى المبادرة وأثارها فى البرلمان فعادت منذ أسابيع «حدوتة» البورصة السلعية لتطفو على السطح!
وحتى تعم الفائدة على غير المختصين سوف أخصص ما بقى من المقال لاستعراض مفهوم البورصة السلعية وأهم أهداف إنشائها.
البورصة السلعية:
هى سوق يقوم فيه المتعاملون (بائعون ومشترون) بإبرام عقود بيع وشراء السلع والخدمات بالأسعار المتفق عليها، والتسليم خلال الوقت المحدد، وذلك من خلال وسطاء أعضاء فى بورصة منتظمة، وفقاً للقواعد والإجراءات التى تحددها تلك البورصة.
تتعدد أنواع البورصات السلعية لتتضمن بورصات المعادن، وبورصات السلع النفطية، وبورصات السلع الغذائية. كذلك تتنوّع المنتجات المتداولة بها لتشمل أسعار الفائدة والمؤشرات والعقود الآجلة وعقود الخيارات وعقود الطقس…
تقوم البورصات السلعية على كل من السوق الحاضرة (Spot Market) وسوق العقود الآجلة، وتعرف السوق الحاضرة بأنها سوق يتم فيها إبرام عقود البيع والشراء للسلع محل التداول مع التسليم الفورى (أى فى غضون بضعة أيام)، أما السوق الآجلة فيتم فيها إبرام عقود البيع والشراء للسلع محل التداول مع التسليم المؤجل وفقاً للوقت المحدد بالعقد، مثل عقود الخيارات options والعقود المستقبلية Futures
الأهداف الاقتصادية لإنشاء البورصة السلعية
– تدشين سوق كبرى لتداول السلع والخدمات ومشتقاتها تعمل كمركز تجارى فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مستفيدة من الموقع الجغرافى لمصر وكبر حجم السوق المحلية وعمق العلاقات المصرية العربية.
– تعظيم الاستفادة من المشروعات اللوجستية العملاقة، وفى مقدمتها مشروع تنمية محور قناة السويس بتوطين منافذ وفروع للبورصة السلعية على محور القناة، فضلاً عن الموانئ المصرية الكبرى مثل موانئ الإسكندرية ودمياط والتفريعة.
– تحقيق الكفاءة الاقتصادية فى آلية استكشاف السعر السوقى للسلع والخدمات محل التداول النقدى أو الآجل، وهو ما يؤدى إلى المحافظة على استقرار الأسعار ومنع التقلبات الحادة فى الأسواق.
– توفير آلية فاعلة لإدارة المخاطر السوقية ومخاطر التخزين ومخاطر تقلبات الأسعار المتعلقة باستيراد السلع، خاصة فى ظل ضمان البورصة لمنظومة التداول للسلع والعقود وضمان التوصيل Guarantee of Delivery.
– جذب فئات جديدة من المستثمرين سواء على المستوى المحلى، الإقليمى أو العالمى للاستثمار فى السوق الجديدة، والتى تعد سوقاً واعدة خاصة مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية وفى ظل توفير الإطار التنظيمى الجيد للسوق مما يعظم من الأرباح المتحققة، ويوفر آلية لإدارة المخاطر والتحوط منها.
– توفر منظومة تداول السلع بالبورصة من تكاليف عملية شراء السلع، كما أنها توفر الوقت الكافى لأطراف التداول (البائع والمشترى)، نتيجة نظام التداول الذى يوفر المعلومات الكافية عن السلع (الكميات، النوعيات، وأماكن التخزين).
– إمكانية تداول عقود النفط الخام لدول الخليج وسائر السلع والخدمات المنتجة خارج مصر علماً بأن بورصات سلعية كبرى مثل بورصة سنغافورة توفّر سوقاً نشطة لمنتجات فى أسواق دول مجاورة مثل عقود زيت النخيل المنتجة فى ماليزيا والتى يتم تداولها فى سنغافورة بصورة أنشط من تداولها بدولة المنشأ نفسها.
– توفير آلية فاعلة للتحوّط من المخاطر باستخدام العقود الآجلة التى تشبه آلية التأمين على السلع والخدمات محل التعاقد الآجل.
الأهداف التنظيمية والقانونية لإنشاء البورصة السلعية
إنشاء البورصة المصرية للسلع والخدمات ومشتقاتها يستلزم تطوير الإطار التنظيمى لأسواق السلع الرئيسة (الزراعية، والمواد الخام كالغاز الطبيعى والبترول والمعادن كالحديد، وغيرها) والذى يتضمن على سبيل المثال لا الحصر، تطوير آليات النقل والتخزين، ومنافذ البيع، وفيما يلى أهم الأهداف التنظيمية والقانونية لإنشاء البورصة السلعية:
– تفعيل نشاط البورصات السلعية فى المحافظات وبناء شبكة متطورة بين تلك البورصات للنهوض بكفاءة تداول السلع والخدمات فى مواقع الإنتاج وبصفة غير مركزية، وهو ما يسهم فى تنظيم أسواق السلع ورفع كفاءتها وميزتها التنافسية.
– تطوير وتحسين شبكة النقل بمنظومة تداول السلع.
– تحسين جودة السلع والخدمات محل التداول، وذلك لحرص إدارة بورصة السلع والجهات الرقابية على سيادة معايير دولية للجودة.
– توفير مصادر تمويل لإنشاء وتطوير مخازن حديثة على مستوى المحافظات لاستخدامها فى منظومة تداول السلع، وذلك من خلال تحفيز البنوك العاملة على تقديم القروض التنافسية لإنشاء وإدارة المخازن الحديثة.
– تحسين جودة التخزين وكفاءة المخازن الحالية والمؤهلة للانضمام إلى منظومة تداول السلع.
– لا يوجد فى مصر بورصة مركزية للسلع والخدمات ولا توجد أى بورصة لتداول العقود والمشتقات على اختلاف أنواعها حتى تاريخه.
– هناك حاجة لتنظيم الأسواق ورفع كفاءة التسعير، وفقاً لآلية ينظمها القانون وتراقبها الدولة دون تعارض مع حرية الأسواق.
وللحديث بقية..
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر