أذكر مداخلة هاتفية لى مع التليفزيون المصرى فى برنامج يتناول قضايا الساعة عبر عدد من مداخلات الخبرات، وكانت القضية المطروحة للنقاش حينها هى الممارسات الاحتكارية لدى العديد من الشركات، وتصدّى الأجهزة المعنية لها، خاصة وقد جاءت حلقة البرنامج فى أعقاب مخالفات رصدها جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية تعرضت بسببها شركات الاتصالات لملاحقة الجهاز، وكان أحد الضيوف (وهو رئيس جمعية مواطنون ضد الغلاء) قد خصص مداخلته للتأكيد على أن شركات المحمول فى مصر أصبحت تفعل بالمستهلك ما تريد دون أى تدخّل جاد من جهاز تنظيم الاتصالات الذى وصفة حينه بأنه جهاز لحماية الشركات من المواطنين المستهلكين للخدمة وليس العكس، حقيقة دور الجهاز كان محيّراً أيضاً فى رفضه لتدخّل جهاز حماية المنافسة لمنع جميع الممارسات الاحتكارية التى من شأنها التأثير السلبى على المستهلك وإفساد المنافسة فى الأسواق، وأبرز تلك الممارسات هو عقد اتفاق لرفع الأسعار بين شركات محتكرة لخدمات الاتصالات احتكار قلة (oligopoly)، والمثل الشعبى الذى يمكن أن يصف موقف جهاز تنظيم الاتصالات هو أنه «لا يرحم ولا يترك رحمة ربنا تنزل».
طبعاً الأزمة التى نشبت بين الجهازين حينها وتناولتها الصحف ظاهرها تضارب الاختصاصات وعدم التنسيق، لكن باطنها ما تمارسه بعض الشركات الكبرى فى مصر من تأثير شديد على جهات معنية بالرقابة عليها، وترشيد أدائها وتعاملها مع المواطنين فى المقام الأول.
النتيجة المباشرة لعدم إخضاع شركات تتمتّع بوضع احتكارى (وهناك فرق بين الوضع الاحتكارى والمارسة الاحتكارية) للرقابة الجادة، هى ضياع حقوق المستهلك، وتردّى نوعية الخدمات، وتحوّل خدمة العملاء فى تلك الشركات إلى عمّال تلقّى مكالمات دون حرص على حل مشكلات العملاء ولا اهتمام بأى نوع من أنواع التصعيد.
منذ سنوات كانت عبارة «سأقدم شكوى بخصوص تردّى الخدمة لجهاز تنظيم الاتصالات» كفيلة وحدها بحصول العميل على جميع حقوقه وفى أسرع وقت ممكن، لكن وبعد أن تحوّل دور الجهاز لشئ لم أعد أعرفه يقيناً! لم تعد الشكوى الفعلية لجهاز تنظيم الاتصالات تشغل بال أى شركة، ستظل خدمة العملاء فى تراجع مستمر أصبح محل إجماع عديد من الناس من أوسط المعارف والأصدقاء، ولو أردت التجربة بنفسك فاكتب كلمة شكوى واحدة من شركات الاتصالات على أى وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعى ولاحظ ردود الأفعال التى لا تستثنى أحداً.
لماذا نختص شركات خدمات المحمول تحديداً بهذا المقال، وهى ليست الخدمات الوحيدة التى تعانى من أوجه القصور؟ الإجابة تكمن فى كلمة واحدة: «المنافسة».. فتلك الشركات تتمتع كما أسلفنا بوضع احتكارى، يمكنها من تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب مع أقل قدر ممكن من العناية بمستوى جودة الخدمات، دون أن يتمكن المستهلك العميل من التحوّل إلى شركات منافسة، خاصة إذا اتفقت تلك الشركات قليلة العدد على أن تقدّم نفس مستوى الخدمة وعند مستويات متقاربة من الأسعار بغرض اقتسام السوق وتوزيع المكاسب فيما بينها.
المستهلك يضيع فى منتصف هذا الاتفاق، ولا يستفيد من مزايا المنافسة التى تمكّنه من الانتقال من شركة إلى أخرى ليحصل على خدمة أفضل وأسعار فى متناوله.
السبب الآخر لتخصيص هذا المقال لهذا الموضوع دون غيره هو العدد الكبير للمستفيدين بخدمات المحمول فى مصر والذى بلغ وفقاً لتقديرات وزارة الاتصالات بنهاية مارس الماضى إلى ما يقترب من 100 مليون اشتراك فى خدمة الاتصال بشركات المحمول الثلاث.
هذا العدد الكبير من المستفيدين والقيمة الكبيرة التى تنتج عن استخداماته لخدمات الاتصالات والإنترنت بأنواعها المختلفة يستلزم وجود جهات رقابية تعنى بمصالح المواطنين قبل أى شىء.
الاتصال بخدمة العملاء فى شركات المحمول صار عبئاً على عملاء تلك الشركات، والخدمة المقدمة لا تعدو أن تكون خدمات موظفى «التحويلة»، يتم تسجيل الشكاوى وتحويلها بين إدارات خلفية عند كل صغيرة وكبيرة مع قدرة هائلة على التسويف وتعطيل مصالح الناس.
يجب أن تلتفت الدولة لجهاز تنظيم الاتصالات، إلى إدارته وتنظيمه الداخلى وكيفية اضطلاعه بمهامه، ويجب أن يكون المواطن هو الحلقة الأهم فى تلك المنظومة.
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر
[email protected]