قرأت، مؤخراً، خبراً فى إحدى الصحف الاقتصادية المتخصصة عن أن مصر تبوأت المركز الأول بترتيب رابطة خدمات التعهيد الأورويبة، متقدمة بذلك على سريلانكا وبيلاروسيا وجزر فيجى.
وبعيداً عن كينونة خدمات التعهيد التى لا تعدو فى النهاية سوى قيام شركة بأجزاء خدمية بحتة، وليس إنتاجية من نشاط شركة أخرى، غالباً ما تقع خارج حدود دولتها (النشاط المعروف عالمياً تحت مسمى Outsourcing) وبعيداً أيضاً عن أن تلك الخدمات لا تقدم أى قيمة مُضافة للاقتصاد القومى سوى القليل من الوظائف، فإن اللافت للنظر هو التفاخر الشديد لبعض المسئولين الكرام بأن مصر تتصدر هذا الترتيب قبل الدول المذكورة.
ولا أقصد هنا التقليل من شأن سريلانكا أو بيلاروسيا أو جزر فيجى، بل على العكس تماماً حيث «لم يكن فى الإمكان أبدع مما كان» كثيراً بالنسبة لها بإمكانياتها المحدودة. ولكن من العبث أن نضع مصر بما تملك من طاقات بشرية وموارد طبيعية ومؤسسات ضخمة جنباً إلى جنب بلدان ذات أسواق متناهية الصِغر وعدد سكان لا يُقارن ومساحة ضئيلة للغاية. المسألة هنا إذن ليست فى القوة ولكن فى القدرة الاقتصادية بمفهوم الـPotential.
أن تتقدم مصر على الدول الثلاث تلك فى أى مجال كان ليس عيباً بالطبع، ولكن العيب هو أن نعتبر ذلك إنجازاً ونخرج به إلى الناس على أنه علامة مُبشرة وبارقة أمل بينما طبيعة الأمور هى أن تسبق مصر هذه الدول بسنوات ضوئية مع التأكيد مرة أخرى على احترامى الكامل لها.
إلا أن ذلك الخبر يُعبر، أيضاً، عن حال الاقتصاد المصرى الذى كان فى الماضى يُمنى نفسه بمنافسة الدول الصناعية الكبرى، وأصبح اليوم سعيداً بتفوقه على بلدان لم يكن لها منذ عشر سنوات ظهور على الخريطة الاقتصادية العالمية أصلاً، ولكنها بذلت مجهودات جبارة لتطوير أنفسها وهو ما لم يحدث فى مصر.
وإحقاقاً للحق يجب ذكر أن هذا الوضع تسبب فيه أساساً نظم متعاقبة أغلقت أمام الجميع مجالات الإبداع والابتكار كافة، وحولت اقتصاد البلاد إلى «عزبة» يحتكرونها مجموعة المنتفعين والمُستفاد منهم ليعيثوا فيها فساداً ونهباً وتطورت الأمور وصارت البلاد اليوم مرتعاً لتطلعات اقتصادية شخصية أو تتعلق بمجموعات بعينها.
وانهارت الصناعة المصرية (المتواضعة أصلاً) وظهرت شخصيات جديدة محل الأباطرة القدامى – ولكن بنفس صلاحياتهم – وتم توظيف البنوك لخدمة أغراض لا علاقة لها بغرضها الأصلى، وتحولت معظم الأسواق المصرية إلى ما يشبه «ملاعب الجولف» الخاصة بزُمرة من رجال الأعمال – إن صح إطلاق هذا اللقب عليهم – فلم يتبق منها شيء يُذكر.
وهكذا نواجه اليوم مشهداً رديئاً للغاية، حيث لم يعد للعملة الوطنية قيمة تقريباً وارتفعت نسب التضخم والبطالة حتى وصلت أرقام فلكية تُذكرنا بأحوال بلدان تخوض حروباً وقلت القوة الشرائية إلى ما يقارب العدم وصارت أسواق المال مطمعاً لنوعية المستثمرين الباحثين فقط عن الربح السريع.
لا أزعم على الإطلاق أنه لا يوجد أمل، ولكن تحقيق هذا الأمل يحتاج أولاً وأخيراً إلى رؤية فعلية وعملية تحقق الطموحات الشعبية، أمل يحتاج إلى تخطيط واقعى وعلمى يتطلب مواجهة موضوعية للواقع المرير الذى نعيشه كى يمكننا الخروج منه فى المستقبل القريب بدلاً من اللجوء إلى الشعارات والأغانى الوطنية وإعلانات التليفزيون والراديو ولوحات الشارع التى دأبت على قول عكس الواقع اليومى المؤلم الذى يعيشه المواطن.
يجب على القيادة السياسية أن تعى أن الديمقراطية والتعددية السياسية وحقوق المواطنة والإنسان قد لا تكون فى مقدمة اهتمامات جموع المصريين ولكن «لقمة العيش» هى كذلك بكل تأكيد.
لو أردنا حقاً النهوض بالاقتصاد المصرى ومعه الدولة بأكملها يجب علينا أولاً التعامل الجاد مع القضايا الآنية بدلاً من التشبث بفكرة التخطيط طويل المدى فقط إن كنا لا نريد أن يموت الشعب جوعاً قبل أن يرى المستقبل الأفضل.
أما ما عدا ذلك فيعنى أننا قريباً سنحلم باللحاق بجزر فيجى وبيلاروسيا وسريلانكا.