الجدل الدائر حول تحقيق فوائض واحتياطيات كبيرة فى الكيانات غير الهادفة للربح لا يكاد ينتهى. من حيث المبدأ فليس من غايات وأهداف تلك الكيانات تكديس أية فوائض هى بالطبع لا تتحقق بشكل كبير (وسريع) إلا عن طريق جمع أرباح، وهو ما يتعارض بشكل صريح مع مسمّى ومهمة تلك الكيانات، سواء أكانت منظمات أو جمعيات أو أية مؤسسات أخرى. لكن البعض يذهب إلى أن اتفاق مجلس الإدارة بالمؤسسة غير الهادفة إلى تحقيق الربح على جمع قدر «معقول» من الاحتياطيات لضمان تأمين استمرار واستدامة تلك المؤسسة هو أمر «مقبول»، فالكيانات غير الهادفة للربح شأنها شأن الشركات الأخرى تحتاج إلى فوائض لتأمين تدفقاتها النقدية والاستعداد لمواجهة الطوارئ. لكن يظل شروط قبول هذا التوجه معقوداً على ضرورة تعريف مقدار ذلك الاحتياطى «المعقول».
يشيع فى الكيانات غير الهادفة للربح مصطلح «احتياطى التشغيل» operating reserve وهو يشير إلى النقدية غير المشروطة التى يحتفظ بها الكيان بغرض تحقيق استدامته فى المستقبل. وعادة ما يحدد مجلس إدارة ذلك الكيان عدداً من الأشهر التى ينبغى على ذلك الاحتياطى التشغيلى تغطيتها، سواء فى صورة مطلقة أو كنسبة من الدخل السنوى للكيان المذكور.
الاحتياطى يستخدم إذن لحماية الكيان ضد الصدمات المالية غير المتوقعة مثل تأخّر المدفوعات المستحقة، صيانة غير متوقعة للمنشآت والمبانى، أو أية ظروف اقتصادية سلبية مؤثرة. من المهم أيضاً أن يضع هذا الكيان المؤسسى فى الحسبان لدى تحديد الاحتياطيات المطلوبة الاحتياجات النقدية، والاستراتيجيات طويلة الأجل للمؤسسة وخطط العمل والضوابط المطلوبة لإدارة المخاطر المؤسسية ومنها ما يتعلق بهامش التسامح مع المخاطر الذى تقبله المؤسسة.
لكن عند أى حد يمكن اعتبار الفوائض المتراكمة مبالغ فيها وتضر بالغاية من نشأة المؤسسة وأهداف بقائها واستدامتها؟ هناك مبادرة هامة فى الولايات المتحدة الأمريكية نشأ عنها معهد لوضع معايير التميّز والحوكمة والمسئولية وأخلاقيات العمل بالمؤسسات غير الهادفة للربح ويطلق عليه The Standards for Excellence Institute وقد حدد المعهد نطاقاً بين ثلاثة وستة أشهر من رأس المال العامل على سبيل الاسترشاد بالحجم المقبول من الاحتياطى فى تلك المؤسسات، مؤكداً أن عملها هو أداء الخدمات التى أنشئت من أجلها وليس تكديس الثروات! فإذا ما رأى مجلس إدارة الكيان غير الهادف للربح أن يراكم من الاحتياطيات ما يزيد عن قيمة ستة أشهر من رأس المال العامل فلا بد أن يكون ذلك مبرراً ومدعوماً بسياسات واضحة معتمدة من قبل مجلس الإدارة.
الفوائض المكدّسة فى مؤسسات غير هادفة للربح عادة ما تعدّ مؤشراً على عدم قدرة تلك المؤسسات على الاضطلاع بوظائفها التى نشأت من أجلها على الوجه الأكمل. فهناك احتمال أنها تقصّر فى تحسين جودة الخدمات بتوظيف تلك الفوائض، أو تحسين ظروف وبيئة العمل بالمؤسسة، أو مراعاة التنمية البشرية والتدريب، أو توفير البنية التحتية والتكنولوجية المناسبة للوفاء باحتياجات المستفيدين من خدمات تلك المؤسسة.. فإذا كانت إدارة المؤسسة قد نجحت فى تحسين كل تلك المؤشرات ومع ذلك استطاعت أن تحقق فوائض كبيرة خلال فترة وجيزة، فربما كان ذلك مؤشراً على عدم امتثال المؤسسة إلى هدف عدم تحقيق الأرباح وكان مدعاة إلى مراجعة مصادر تمويلها، وربما تسبب مستقبلاً فى تراجع تلك المصادر ونكوصها عن تمويل المؤسسة، سواءً أكانت تلك المصادر من التبرعات أو المنح أو العطايا أو الرسوم..وربما تسبب ذلك فى عدم استدامة المؤسسة أو تحويلها إلى شكل آخر هادف للربح.
البعض يذهب إلى ضرورة معاقبة المؤسسات غير الهادفة للربح إذا ما تراكمت لديها الفوائض، سواء بفرض الضرائب والرسوم والإتاوات على أنشطتها أو بمحاسبة مديرى تلك المؤسسات التنفيذيين على تحقيق فوائض كبيرة ومبالغ فيها من أنشطة لا ينبغى أن تحقق أو تهدف إلى تحقيق الربح، خاصة إذا سعى المدير المسئول لزيادة الإيرادات ولم يستخدمها لصالح الغرض من المؤسسة وأدائها لمهامها ووظائفها.
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر