أجرت مؤسسة «جسر» لأبحاث المسوح استطلاعاً مهماً لآراء المواطنين حول عدد من القضايا، كان أبرزها وأكثرها اتصالاً بموضوع الساعة هو: تغيّر نمط استهلاك المواطنين على خلفية الارتفاعات المتتالية فى أسعار السلع والخدمات، منذ قرار تحرير سعر الصرف نوفمبر الماضى.
وقد أسفر الاستطلاع عن النتائج التالية:
• %57 من المبحوثين قاموا بالامتناع عن شراء أو تخفيض شرء بعض السلع وكان على رأس تلك السلع اللحوم.
• %48 قاموا بتخفيض استخدامهم للأجهزة الكهربائية مثل التكييف والتليفزيون وغيرها من أدوات منزلية.
• %58 ممن اعتادوا شراء سلع مستوردة عمدوا إلى استبدالها بسلع محلية الصنع.
• %43 ممن لديهم سيارة قد خفّضوا من استهلاكهم لها.
• %23 يقومون باتباع سلوكيات أخرى لمواجهة تضخم الأسعار كان أبرزها التكيف مع الأوضاع الجديدة وترشيد النفقات، من ذلك الاعتماد على الذات فى تدبير احتياجات كان يتم شراؤها فى السابق (مثل تفصيل وحياكة الملابس- إصلاح الأعطال بالسباكة وأعمال النجارة الأساساية بالمنزل).
وتتبع مؤسسة جسر منهجية إحصائية فى المعاينة والتحليل الإحصائى تم وضعها من قِبل نخبة من الخبراء المصريين فى المجال، ويتم تحديد حجم العينة وفقاً للمعايير العلمية، حيث يتراوح فى المتوسط ما بين 1000-2000 مفردة.
النتائج السابقة لها العديد من الدلالات المهمة، فهى تشف أولاً عن كون أكثر من نصف المجتمع المصرى قد غيّر من نمط استهلاكه نتيجة تضخم الأسعار، وهى تؤكد على مرونة المستهلك المصرى فى التعامل مع الظروف الصعبة، وبطلان ادّعاء بعض مقدّمى البرامج الحوارية بأن المواطن المصرى متّهم فى كل نازلة اقتصادية نزلت بالبلاد! فى محاولة لإبراء ذمم من خرّبوا الاقتصاد على مدار عقود، ومن انتفعوا بهذا التخريب وأثروا وصاروا نجوماً اقتصادية وإعلامية أيضاً.
التحوّل فى نمط الاستهلاك قد أصاب بنسبة غالبة اللحوم والفواكه والخضراوات (اللحوم الحمراء 51% الفواكه 19% الدواجن 15% أسماك 14% وخضراوات 14%) وهو ما يدل على أن النسبة الأكبر من دخول غالبية المصريين تذهب إلى إشباع حاجات أساسية، دليل على انتشار الفقر، وأن اللحوم مازالت تعامل معاملة السلع الكمالية التى تتمتع بمرونة مرتفعة تجاه تقلبات الدخل، هذا التغيّر فى نمط الاستهلاك بالتأكيد سيكون له مردوده السلبى على الصحة العامة للمواطنين، وعلى تراجع نصيب البروتينات والفيتامينات كموكنات غذائية تم تخفيضها بشكل كبير جرّاء ارتفاع الأسعار وتراجع الدخل الحقيقى.
كذلك هناك فرق بين ترشيد الاستهلاك وتخفيضه، لأن الترشيد يفترض بداية أن هناك إسرافاً فى الاستهلاك، بينما التخفيض والتقشّف ستكون له آثاره على الصحة العامة وعلى النشاط الاقتصادى وربما أدى إلى انتشار حالة من الركود فى الأسواق، وتسبب فى فقد العديد من العمّال وأصحاب الحرف لوظائفهم على أثر اعتماد المواطنين بشكل أكبر على إشباع حاجاتهم بإمكانات ذاتية.
هذا بالتأكيد لا يدفع عن جميع المستهلكين تهمة السرف والمبالغة فى الاستهلاك، لكن النظرة العلمية المنصفة يجب أن تدرس جميع الفروض والاحتمالات، وهناك احتمال كبير أن تراجع مستويات الاستهلاك لسلع وخدمات هامة وضرورية لحياة المواطنين مثل الأطعمة والكهرباء، قد حدث بشكل كبير بين طبقات معدمة وأخرى تجنى رزقها بصعوبة، وهو ما يؤكده المنطق من تأثر الطبقات الدنيا والمتوسطة بارتفاع الأسعار أكثر من الطبقات العليا التى عادة لا يتغيّر نمط استهلاكها بسبب زيادة الأسعار، لأن الجانب المستهلك من دخله أقل كثيراً من المدّخر.
أيضاً هناك تداعيات مهمة لاستبدال المستورد بالمحلى، خاصة إذا غابت معايير الجودة والرقابة على الإنتاج والتوزيع وضاعت حقوق المستهلك بين الأجهزة غير المفعّلة رقابياً، لأن المنتج المحلى فى هذه الحالة سوف يفعل بالمستهلك ما يشاء ويستفيد من زيادة حجم الطلب عن المعروض المعتاد لرفع الأسعار بما يفوق أحياناً قيمة المستورد.
كذلك لا يعد استبدالاً للمستورد بالمحلى إذا كانت غالبية مكونات هذا المسمّى محلى الصنع مستوردة من الخارج، علينا إذن أن ننتبه إلى التفاصيل وألا نطلق أحكاماً بخصوص العائد الإيجابى لقرار التعويم، وما إذا كانت آثاره على ميزان التجارة جيدة من عدمه، وقد بيّنت فى أحد مقالاتى حيلة خداع الفواتير، والتى نتج عنها ارتفاع قيمة الصادرات دون زيادة فى حجمها نتيجة ارتفاع أسعار المنتج المحلى مقوّماً بالدولار بعد التعويم وليس العكس.
من نتائج استطلاع الرأى أيضاً تبرز أهمية المواصلات العامة، فنحو 69% من المبحوثين لا يمتلكون سيارة، وهم يعتمدون على بدائل مختلفة أصبح المستهلك فيها أيضاً رهناً لكل تقلبات أسعار الوقود بصورة شبه يومية! هذا ينعكس بصورة كبيرة على أسعار النقل والتخزين وعلى يومية العامل، كل عناصر الإنتاج تصبح شديدة التقلّب وتعجز الدولة عن توفير بدائل للنقل العام أكثر استقراراً وصيانة لآدمية الركّاب.
لو استمرت معدلات التضخم السنوية الحالية فإنها سوف تلتهم الدخل الحقيقى للمواطن كاملاً فى أقل من 3 سنوات، وسوف تتحوّل معاناة المواطن إلى ما هو أكثر من التضحية بنمط حياته ونوعية غذائه، وربما شهدت طبقات المجتمع تحولات عنيفة وجذرية تهدد الاستقرار المجتمعى وتنذر بأسوأ العواقب.
نائب رئيس لجنة الاستدامة بالاتحاد العالمى للبورصات