
لماذا تخسر العمالة أمام الرأسمالية؟ طرح هذا السؤال أحد كتاب الرأى فى وكالة بلومبرج فى مقال له عما أسماه أحد أكثر القضايا غموضا فى الاقتصاد، وهى تراجع حصة العمالة من الدخل الوطني، واتجاه حصة أقل من الدخل الذى ينتجه الاقتصاد إلى الأشخاص الذين يعملون، وحصة أكبر للأشخاص الذين يمتلكون الأشياء.
وقال نواه سميث كاتب المقالات فى الوكالة إن هذا الاتجاه يثير القلق، لأنه يساهم فى زيادة عدم المساوة، ويمتلك الفقراء حصة أقل فى الأراضى ورأس المال فى الاقتصاد ما يمتلكه الأغنياء، وقد ينتج عن انخفاض قيمة العمالة زيادة فى معدلات البطالة، واضطرابات اجتماعية، وفوضى عامة.
أضاف أنه لا أحد يريد أن يرى الرأسمالية تتحول إلى الرؤية الكئيبة التى تصورها كارل ماركس، فى إشارة إلى المفكر الاشتراكى اﻷشهر، ولذلك رغم أن تراجع حصة العمالة كان متواضعا نسبيا حتى الآن، يتسابق الاقتصاديون لتحليل الأسباب قبل أن تصبح المشكلة أسوأ.
وقال إنه على الرغم من أن كثيرين ركزوا مؤخرا على فكرة أن الاحتكار هو سبب هذا التحول، إلا أنه حتى البحث المشهور الذى كشف هذا الارتباط – والذى أجراه ديفيد أوتر، وديفيد دورن، ولورانس كيتس، وكريستينا باترسون، وجون فان رينين – أظهر أن الاحتكار يمكن أى يفسر حوالى 20% فقط من هذا التحول، وهذا يعنى أن هناك حاجة لفحص تفسيرات أخرى لتراجع حصة العمالة مثل ازدياد الأتمتة أو العولمة.
ويؤكد الاقتصاديون ماى داو، وميتالى داس، ووزكا كوات، وويتشينج ليان من صندوق النقد الدولى أن العامل المحفز لهذا التحول ليس الأتمتة وحدها ولا الاستعانة بعمالة فى الخارج فحسب وإنما التفاعل بين هذين العاملين، وأشاروا إلى أن الدليل فى ذلك هو أن التراجع فى حصة العمالة لم يقع فى الدول الغنية فحسب وإنما فى الدول النامية كذلك.
وقال الكاتب إن هذا لم يكن ليحدث لو أن العولمة كانت هى المسئولة وحدها، والنظريات التجارية تشير إلى أنه بسبب أن الدول الغنية لديها رأسمال كثير والدول الفقيرة لديها عمالة كثيرة، عندما تبدأ هذه الدول فى التجارة مع بعضها، ينبغى أن تنخفض حصة العمالة من الدخل فى الدول التى تندر فيها العمالة، أى الدول الغنية، وترتفع فى الدول الفقيرة ذات العمالة الوفيرة، ولكن هذا ليس الواقع.
ويضيف أنه فى نفس الوقت إذا كانت الأتمتة هى سبب جعل العمالة بالية، فإن الدول النامية لا ينبغى ان تشهد تراجعا فى حصة العمالة فى نفس الوقت لأنها متأخرة عقودا فيما يتعلق بالتقدم التكنولوجى الذى تمتلكه الدول الغنية، ويؤكد مؤلفو البحث أن البضائع الاستثمارية مثل – الآلات والمركبات والحواسب الآلية – لم تصبح رخيصة بنفس قدر رخصها فى الدول الغنية، لذا فإن اللغز يأخذنا إلى هذا التساؤل: لماذ تتراجع حصة العمالة فى العالم النامي؟
ويقدم دوا وزملاؤه تحليلا افتراضيا يعتمد على أنواع القطاعات التى وجدت فى الدول الفقيرة قبل وبعد الانفتاح التجاري، وعندما كانت الدول الفقيرة منعزلة عن الاقتصاد العالم، كانوا عادة يتخصصون فى الأشياء التى تعتمد على العمالة الرخيصة مثل الزراعة والخدمات منخفضة القيمة، والقطاعات التصنيعية البسيطة كثيفة الاستهلاك للعمالة، وكانت أحوال ملاك الأراضى وأصحاب رأس المال ميسورة ولكن لم يكن لديهم فرصة فى أن يصبحوا أغنياء حقيقيين، لأن أى استثمار فى الآلات أو التكنولوجيا كان يقوضه فيضان العمالة الرخيصة، ولذلك لم يكلفوا أنفسهم عناء القيام باستثمارات فى المقام الأول، وهذا النقص فى الانفاق الرأسمالى تفاقم بسبب الأنظمة المالية البدائية أو المختلة.
ويقول إنه بعد ان انفتحت التجارة، بدأت الدول الغنية تصدر الوظائف التصنيعية للدول الفقيرة، وهذه الوظائف تقدم فرصا أفضل للعمالة، ولكنها فرصا أفضل بكثير بالنسبة لأصحاب رؤوس الأموال، وفى الوقت الذى أصبح فيه الرأسماليون فى الولايات المتحدة أو فرنسا أو اليابان أكثر ثراء بعد تخفيضهم تكاليف العمالة وشحن الوظائف إلى الصين، أصبح الرأسماليون الصينيون أثرياء بسبب أنهم تمكنوا أخيرا من بناء إمبراطوريات أعمال ضخمة.
أضاف سميث أنه وفقا للاقتصاديين فى صندوق النقد الدولى يجب أن يساعد التكامل المالى العالمى فى تخفيف الضغوط على العمالة فى الدول الفقيرة، وإذا استطاعت الشركات الأمريكية والأوروبية واليابانية والتايوانية الاستثمار فى الدول النامية مثل الصين، سوف يعزز تدفق الأموال الأجنبية دخول العمالة المحلية وينافس أرباح ملاك رأس المال المحليين.
والآن، ما مشكلة الدول الغنية؟ هنا، تعمل الأتمتة والعولمة معا، وتصدر الشركات فى الدول الغنية الوظائف كثيفة الاستهلاك للعمالة فى تركيب الإلكترونيات والألعاب والملابس إلى الصين وبنجلاديش، بينما تشترى أدوات وروبوتات للقيام بعمليات التصمنع مرتفعة القيمة والتكنولوجيا مثل المعالجات الدقيقة والطائرات، ونتيجة لذلك، تتضرر العمالة فى الدول الغنية من التجارة الحرة وظهور الآلات الرخيصة.
ويختم سميث مقاله بالقول إن اكثر تفسيرين تقليديين لارتفاع عدم المساواة وتراجع الأجور قد يكونان صحيحين، وقد تسحب عاصفة من الروبوتات والتجارة الحرة وبعض القوة الاحتكارية السلطة من الطبقة العاملة وتعطيها للرأسماليين، وربما فى ظل هذه العوامل القائمة جميعها، يكون اللغز هو لماذا أوضاع العمالة ليست أسوأ مما هى عليه الآن.