اقتصادنا يا تعبنا.. الحلقة 55:
لقد قرر البنك المركزى بتاريخ 4 اكتوبر 2017 رفع نسبة الاحتياطى الإلزامى على البنوك من 10% إلى 14%، على أن يسرى القرار اعتبارًا من 10 أكتوبر الجاري، علما بأن نسبة الاحتياطى الإلزامى كانت قد استقرت عند 14% منذ عام 2001 حتى 2012، وتم خفضها تدريجيًا بعد يناير 2011 بنسبة 4% لتصل إلى 10% بغرض دعم القطاع المصرفي، ولتمكين البنوك من مواجهة زيادة الطلب على السيولة بعد أحداث 25 يناير 2011، ما دفع الكثير إلى أن يتساءل: هل هذا القرار صائب من الناحية الفنية والوقت والسياق الاقتصادي؟
لاشك أن الاجابة عن هذا السؤال ستكون باستعراض المزايا والعيوب فى ضوء السياق الذى اتخذ فيه لأن صحة او عدم صحة القرار لا يمكن تحديدها إلا من خلال السياق الذى اتخذ فيه.. فالسياق الذى اتخذ فيه هو الوضع الاقتصادى والاجتماعى الحالى (عجز موازنة – انخفاض الاستثمارات والسياحة – ارتفاع معدلات التضخم والبطالة وانخفاض مستويات التشغيل (ركود تضخمى) – معدلات نمو اقتصادى منخفضة – بيئة اقتصادية واستثمارية تحتاج الى مزيد من الإصلاحات – قطاع خاص يعانى – ارتفاع معدلات الفائدة وارتفاع تكلفة التمويل– اثار التعويم- ارتفاع تكاليف الإنتاج- برنامج صندوق النقد الدولى والالتزامات التى يرتبها على الدولة فى اطاره).
وبالنظر الى إيجابيات القرار اولا، فنحن نرى ما يلى:
– تم إعفاء المشروعات الصغيرة والمتوسطة من نسب الاحتياطى الإلزامي، فى نطاق مبادرة المركزي، وبالتالى فمن المتوقع أن يشجع القرار البنوك على زيادة تمويلها لتلك المشروعات التى تعتبر قطاعا مهما لا يمكن اغفاله فى تحقيق النهضة الاقتصادية المنشودة.
– إن حصيلة تلك النسبة ستدعم إمكانيات المركزى فى تعويض البنوك عن فارق أسعار الفائدة المرتفعة التى يتكبدونها إبان تنفيذ سياسة المركزى فى استهداف التضخم ويتواكب مع السياسة الانكماشية للبنك ولكنها لا تتواكب مع احتياجات الوقع (مزيد من الاستثمار من اجل مزيد من التشغيل).
– ارتفاع الاحتياطى الإلزامى قد يدفع البنوك إلى خفض تدريجى لأسعار الفائدة الدائنة المدفوعة للعملاء على الودائع قصيرة الأجل (حتى عام) وذات التكلفة المرتفعة، الأمر الذى قد يزيد فى المقابل من الطلب على الودائع الثلاثية (الشهادات) ذات العائد المرتفع ومد اثر التكلفة الى مدد اكبر مما يققل العبء على البنوك.
– اثر مترتب على ما سبق، ان توجه البنوك نحو خفض الفائدة تدريجيا على الودائع قصيرة الأجل، ما قد يترتب عليه تخفيض الفائدة على القروض التى مازالت مرتفعة حتى الآن.
– تقييد السيولة المتاحة نسبيا لدى الجهاز المصرفى غير المستغلة، خاصة أن الأرقام تشير الى تحسن معدلات السيولة (وذلك لارتفاع حجم الودائع بالبنوك والتى تزيد حاليا على 3 تريليونات جنيه، بعد زيادة سعر الفائدة) وتحسُّن الربحية لدى البنوك.
اما من الناحية السلبية، فيتجه رأينا الى ما يلى:
– – إن الاحتياطى الإلزامى أو القانوني، يمثل نسبة من ودائع العملاء، تودعها البنوك لدى المركزي، دون أن تحصل على عائد مقابلها. وبالتالى رفع هذه النسبة يمثل زيادة فى تكلفة البنوك نتيجة الفرصة الضائعة من عدم استخدام رصيد تلك النسبة ضمن السيولة المستثمرة، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه النسبة فى الأصل تودعها البنوك لدى المركزى لضمان سلامة البنوك إذا ما واجهت أى مخاطر سيولة.
– لم يحدد بعد ماذا سيفعل البنك المركزى بهذه الحصيلة، هل ستبقى لديه ام سيتم اقراضها للدولة، ام سيتم حجزها دون استخدام.
– تقييد السيولة لدى البنك والخفض منها سيقلل من كمية النقود المتاحة للإقراض، كما قد يقلل من اقبال البنوك على اقراض الحكومة بشراء اذون الخزانة الحكومية (فالقرار سيخلق من تحد على تراجع توظيف أموال البنوك فى أدوات الدين) التى تتسابق على البنوك على شرائها مغفلة دورها فى توجيه تلك الأموال للاستثمار والإقراض للقطاع الخاص..
– وبالتالى قد تلجأ البنوك لتقليل حجم المتاح لإقراض القطاع الخاص بصورة اكبر فى وقت يمثل فيه تحدى ارتفاع التمويل خطرا كبيرا على الاستثمار والإحجام عنه فى وقت تحتاج فيه مصر تشجيع الاستثمار.. وبالتالى سيزيد من احجام البنوك على المخاطرة بما تبقى من اموال فى الاقراض والاستثمار واللعب فى المضمون.. علما بأن اى استثمار يحتاج لهيكل مالى (قد يكون 30% رؤوس اموال-70% قروض او 20-60% او 40-60%).. ما يعنى ان حجم التمويل من القروض يمثل النسبة الأكبر.. فى وقت ترتفع فيه تكلفة التمويل (نتيجة لارتفاع سعر الفائدة (18-20% على الودائع) التى اقتربت من معدل العائد الداخلى لأى مشروع IRR وبالتالى لن يحجم المستثمر على المخاطرة بأمواله فى ضوء اسعار فائدة تضمن له عائدا مضمونا دون مخاطر وبالتالى سيضعها فى البنك دون التفكير فى التوسع او ضخ مزيد من الاستثمارات نتيجة ارتفاع فائدة الاقراض (التى ستتراوح بين 22 و25%).. فى وقت ارتفعت فيه كل تكاليف الانتاج (اسعار المرافق والوقود مثلا).
– القرار لا يوجد به تنسيق مع السياسة المالية والاستثمارية فى وقت لم تتحسن مع الصورة الكلية للاقتصاد ومناخ الاستثمار للمستوى المتوقع.. وكذلك لم تتحسن مع مستويات الاستثمار..
– لم تجتمع الحكومة مع البنك المركزى ليحدد ما هو برنامج الحكومة ما بعد مرحلة الصندوق، وتحديد ما إذا كان الاقتصاد قادرا على الوقوف على رجليه من جديد ام لا..
وخلاصة القول لا بد من النظر الى الأمور التالية فى اطار سياسة الإصلاح الحالية:
– لا بد من التخفيض التدريجى لأسعار الفائدة على الودائع وبالتبعية ستقل فائدة الإقراض.
– ينبغى ان تعود البنوك لسابق عهدها كمستثمر وشريك فى المشروعات الاستثمارية دون ان تكتفى بتدبير التمويل والحصول على الفوائد فقط، لأن ذلك سيقلل من تكلفة التمويل وسيزيد من حجم الاستثمار المشتركة مع البنوك.
– لا بد من مناقشة مثل هذه القرارات أولا بالتنسيق مع المجموعة الاقتصادية او خلال المجلس الأعلى للاستثمار قبل اقرارها.
– اعادة التفكير فى خلق ادارات متخصصة فى البنوك للإقراض بحسب النشاط القطاعى، ما يخلق كوادر ائتمانية قادرة على فهم طبيعة كل صناعة، (وليس ائتمان عام فقط).
– محاسبة البنوك سنويا على المحفظة الاستثمارية فيما وجهتها ومنح حوافز تشجيعية للبنوك التى توجه نسبة جيدة من محافظها نحو الاستثمار طويل الأجل (الدخول فى مشروعات استثمارية)..
– تعظيم دور المسئولية المجتمعية للبنوك فى الانفاق الاجتماعى (بنية اساسية – مرافق – تعليم – صحة) على المحافظات الفقيرة بما يساعد الدولة كشريك لتحقيق التنمية المجتمعة المستدامة من نسب الاحتياطى المتوفرة لديها وكنسبة من الأرباح التى تحققها..
– مراعاة حالة الركود التضخمى والتضم الناتج عن عيوب جانب العرض نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج.. فكل الإجراءات التى يتخدها البنك المركزى هى لمعالجة التضخم الناتج عن الطلب وليس العرض وهو امر لا يعكس السياق الحقيقى لمشاكل الواقع الاقتصادي..
– كل القرارات الاقتصادية التى اتخذت منذ نوفمبر 2016 حتى الآن هى حصاد للالتزامات الخاصة ببرنامج صندوق النقد الدولي، حيث التخبط فى السياسة النقدية وعدم التنسيق مع المالية والاستثمارية والصناعية.. وبها تخبط دون مراعاة للتكلفة الاقتصادية او المجتمعية..
– لا بد من التفكير في مرحلة ما بعد الصندوق وكيفية رفع شأن المواطن اقتصاديا واجتماعيا..
– تبسيط الإجراءات الخاصة بالحصول على التمويل للشركات ولاسيما للمشروعات الصغيرة والمتوسطة حيث النسبة المنفذة من مبادرة الرئيس حتى الآن مازالت ضئيلة..
وما نبغى إلا إصلاحا…
إبراهيم مصطفى
الشريك المؤسس لشركة مسارات للاستشارات