حفظ الله مصر من التقسيم والتمزّق الذى أصاب العديد من دول الجوار، تظل مصر دولة موحّدة منذ عهد مينا موحّد القطرين، لكن بين الحين والآخر تفقد الدولة جانباً من سيطرتها على عدد من المناطق كلما ترهّل بنيانها وضعف جهازها الإداري.
ومن أبرز مظاهر فقدان السيطرة بل وربما فقدان السيادة ما يشهده الطريق الدائرى فى مصر، فهو طريق تحدث فيه كل المخالفات وترتكب فيه الفظائع وتنتهك الحرمات دون أن تشعر بأى مظهر من مظاهر الدولة إلا يسيراً.
أنت فى الطريق الدائرى تقطع أميالاً فى ظلمات الليل لأن أعمدة الإنارة لا تضاء إلا فى النهار! تسير بمحاذاة سيارات مقطورة منعت فى معظم دول العالم ورفض المستفيدون فى مصر حتى تطويرها، ويقود تلك المقطورات عصبة من السائقين الذين أعلنت الدولة من قبل أن الكشف المفاجئ عليهم أسفر عن أكثر من 90% نتيجة إيجابية لتعاطى المخدرات! مع هذا لم يسجن أحد ولم تنتفض أركان الدولة أو تهتز لتلك الجريمة الصريحة، التى يلحق بها جرائم قتل وترويع لقائدى المركبات ترقى إلى درجة العمد.
تسير فى الدائرى فتفاجأ بحفرة عميقة كأنما أحدثتها للتو قذيفة هاون! إذا نجوت من تلك القذيفة، فربما أمطرت بوابل من شواظ حمولة خطيرة غير مُؤمَّنة ومخالفة للوزن فوق عربات النقل التى يقطرها سائقو الترامادول.
أنت فوق الدائرى بين يد الله وحده، لا ترجو نجدة إلا المعونة الإلهية، بل ربما صادفت لسوء حظك بعض سيارات طوارئ الطريق التى تلقى بمواد صلبة على الطريق لتمزيق عجلات سيارتك فتهب لنجدتك بمقابل سخىّ!
لو أنك نجوت من كل تلك المخاطر عالية الاحتمال كثيرة التكرار، فلن تنجو من قواطع الكاوتشوك التى تتحول إليها رقع واسعة من الطريق جرّاء تعريته من طبقة الأسفلت وتحويله إلى ما يشبه خطوط السكة الحديد، تتمايل فوقها السيارات وتتحول إلى ما يشبه سيارات الصدام بمدن الملاهى.
أما لو كنت تزيد عبور الطريق لأنك من سكّان العشوائيات الكثيرة المنتشرة حول الطريق، فأنت مهدور الدم، تتراجع فرص نجاتك إلى أدنى مستوياتها ولا تنتظر أن تقلّك سيارات الإسعاف لأنها لا تأتى قبل ساعتين من الاتصال ولا تحملك لو أن فرص نجاتك ضعيفة وفقاً لتقدير المسعف الذى يفضّل انتظار وفاتك لتخرج عن نطاق تكليفه بنقلك وتصبح مسئولية غيره.
هذه الحالة من الفوضى المقيتة والعشوائية المخيفة لا تقل خطورة عن تنظيم ولاية سيناء الذى تقل ضحاياه بالتأكيد عن ضحايا الدائرى المقدّرين بالآلاف (13 ألف حالة قتل على الطرق السريعة سنوياً نصيب الدائرى منها غير معلوم على وجه الدقة).
لم نعد نرى سوى الخطر المباشر السافر الذى يحمل هيئة الإرهاب والترويع، لكن مخاطر الإهمال والعشوائية وغياب الدولة أكبر ألف مرة من الإرهاب، لأن الأخير تتضافر الجهود لمواجهته، ويلتحم الشعب لمعاداته، لكن الإهمال يتحصّن بكلمة «معلش» و«نستحمل»، إلى غير ذلك من كلمات تحض على مخالفة الضمير وتعزيز عدم المبالاة.
تهدر الأرواح وتضيع فرص الاستثمار وتغيب السياحة وينتشر الذعر، بينما نوهم أنفسنا بقوة وسيطرة المركزية الحاكمة لشئون البلاد، بينما السيطرة الحقيقية على مختلف الطرق والمرافق والخدمات لن تتحقق إلا بتفعيل دور المحليات، وتمكين الحكم المحلى من الرقابة والمحاسبة والتطوير.
ولاية الدائرى أصبحت مستقلة عن الدولة، تتمزّق مسئوليتها بين هيئة الطرق والمحليات والشرطة، وهنا تموع المسئولية وتغيب المساءلة ويهدر الدم المصرى الذى بات رخيصاً فى كل مكان.
د/مدحت نافع