اقتصادنا يا تعبنا.. الحلقة 66..
عندما تفكر التكنولوجيا فى حل مشاكل النظام النقدى..
البلوك تشين حاجة.. والبتكوين حاجة تانية.. ولكنهما يكملان بعضهما البعض..
لقد أثار مقالى الماضى حفيظة عدد كبير من المهتمين بسوق المال والنظام النقدى وبالبيتكوين تحديداً سواء من السوق أو أساتذة الاقتصاد المنعكفين حالياً على دراسة هذا التطور فى النظام النقدى وتكنولوجيا نظم المدفوعات وأثرها على مستقبل النظرية النقدية وتطور نظم المدفوعات ونظرية الثمن «القيمة» واستقرار الاسعار والتضخم.. ومدى استعداد البنوك لتقبل التعامل بالعملات الافتراضية أو رفضها.. فى وقت شرعت فيه بعض الدول لقبول هذه العملات وفتح حسابات مستقلة لها وقام البعض الآخر بالبدء فى إصدار عملة إلكترونية قابلة بالأمر الواقع نتجية الانتشار المتسارع لهذه العملات، ولعل مكالمة أساتذتى فى الاقتصاد لى من قبيل التهنئة أحياناً ومن قبيل المناقشة المفيدة للتطوير أحياناً أخرى دافع كبير لى..
فعندما فكر اليابانى ساتوشى بتاع التكنولوجيا فى حل مشاكل النظام النقدى ومشاكل المدفوعات فى العمليات التى يتم اجراؤها عن طريق النظام البنكى.. واخترع حينها البيتكوين.. وهى مكونة من كلمتين انجليزيتين «Bit» ــ وحدة قياس كمية المعلومات، و«Coin» ــ قطعة نقود، حيث يطلق لفظ البيتكوين على وحدة العملة ذاتها ومجازاً كذلك على شبكة الدفع – لا النظام المتبع- التى تنفذ من خلالها العمليات على العملة الرقمية.
والبيتكوين كما قلنا هى عملة هى مستقلة تماماً وغير مرتبط بأى دولة، نظام بنكى، ولا توجد إدارة داخلية أو خارجية، وجميع الوحدات الجديدة تنشأ، عندما يقوم كمبيوتر المستخدم أو هاتفه بحل معادلة رياضية صعبة للغاية لتخليق هذه العملة، وفى الوقت ذاته كمية العملة التى يمكن إنشاؤها تلقائياً، محدودة، لأنه وفقاً لساتوشى سيتم إنتاج 21 مليون بيتكوين فقط (المتداول منها حوالى 16 مليون وحدة فقط اى متبقى حوالى 5 ملايين وحدة)، ومن ثم إنشاء الوحدات الجديدة سوف يتوقف أم سيكون هناك أمر آخر حينها، وهذا يفرض تحدياً هل العدد المحدود للعملة سيبقى هكذا، وكيف ستتأثر قيمته والمعاملات التى تتم به، وما هو وضع باقى العملات المثيلة، حيث أن هناك العديد من العملات، كما قلنا مثل الايثيريوم والريبل وغيره، ولاسيما وأن إجمالى القيمة السوقية لهذه العملات الرقمية يدور حالياً بين +600 و+700 مليار، تبلغ القيمة السوقية للبيتكوين حوالى 227 مليار دولار خلال الأسبوع الثانى من يناير 2018، علماً بأن حجم التذبذب فى القيمة السوقية كبير جداً، وهو ما يجعل منها عملة هشة volatile قابلة للاهتزاز بشكل كبير، فى وقت احتلت حصة العملات الافتراضية فى إتمام المعاملات ما نسبته 16% من حجم المعاملات الإلكترونية العالمية، لدرجة أن البعض بدأ يتحدث عن تغيير خريطة القوى الشرائية للنقود وانحسار دور العملات التقليدية فى المستقبل!
ورغم أن كثيرون يخلطون بين دور العملة الافتراضية وتقنية بلوك تشين التى تكافئ المساهمين بعملية التحقق بالشبكة بمنحهم بعد إنجاز مهمام التحقق، بعملة افتراضية قد تكون بيت كوين أو أى عملة افتراضية أخرى، لذا لزم التنويه أن العملة الافتراضية شىء ونظام البلوك تشين شىء آخر، وما العملة الافتراضية هنا إلا أداة تداول داخل منظومة البلوك تشين، حيث يعد البلوك تشين سجلاً إلكترونياً أو قاعدة بيانات به العديد من البلوكات مرتبطة كالسلسة، ولكن طريقة التعامل معها مختلفة كما هو حال توزيعها اللامركزى تظهر فيها المعاملات دون تفاصيل عمن يقومون بها.. وتساعد تكنولوجيا «بلوك تشين» التى كانت تعرف بسجل المعاملات فى العملة الافتراضية بيتكوين، على الحفاظ على قوائم مقاومة للتلاعب فى سجلات البيانات المتنامية باستمرار، وتتيح تبادلاً آمناً للمواد القيّمة كالأموال أو الأسهم أو حقوق الوصول الى البيانات، وخلافاً لأنظمة التجارة التقليدية، لا حاجة لوسيط أو نظام تسجيل مركزى لمتابعة حركة التبادل، بل تقوم كل الجهات بالتعامل مباشرة مع بعضها البعض، فيما شكل مبسط لتوضيح شكل نظام البلوك تنشين Blockchain وكأن سجل إلكترونى e-registry مصمم على أعلى مستوى تكنولوجى به العديد من البلوكات والمتعاملين يسجل حركة التعاملات والمتعاملين بها بنظام مركزى دون الحاجة الى وسيط ثالث يتم هذه المعاملات، وكأنه بمثابة خادم كمبيوتر server يربط بين عدد مهول من الحاسبات والأجهزة الإلكترونية.. هذا النظام به سلسلة من البلوكات او الكتل، حيث أن كل كتلة تحويلات تحتوى على معلومات حول بيانات الكتلة السابقة وهذه الكتل تشكل سلسلة متواصلة، التى يتم حفظها على الملايين من الكمبيوترات فى أنحاء العالم، ويكون إدخال تعديلات على السلسلة مستحيلاً.
كل عميل له حساب رقمى digital and crypto account (كود موحد فقط ورقم سرى يتعامل به) يتعامل به فى إتمام المعاملات الإلكترونية عن طريق النقود الرقمية مثيلة الـ bitcoin، ومن باب التبسيط بعيداً عن تفاصيله الإلكترونية يعد البلوك تشين إلى حد ما شبيها بعمليات تداول الأسهم.
وما يثير حفيظة البنوك الرافضة للبيتكوين هو أنه يلغى تواجدها كوسيط مؤسسى مالى لإتمام الصفقات واتمام المعاملات، لأن التعامل بالبتكوين ليس فيه وسيط، الكل اقران.. وبالتالى الرسوم والعمولات التى تحصلها عليها ستنحسر إلى جانب تهميش أو انحسار دور النقود الورقية بجميع أنواعها التى تتعامل بها، بالإضافة إلى ضرورة تحديث أنظمتها وحساباتها وتتبنى أنظمة البلوك تشين، وهو ما يتطلب ثورة تغيير للنظم البنكية والنقدية المتبعة لمواكبة هذا التطور.
كذلك هناك مخاوف من عدم استقرار العملة الافتراضية التى يعيبها عدم الاستقرار والتذبذب الكبير والسريع مما يؤثر على أنظمة الثمن والتسعير وبالتالى معدلات التضخم إذا ما قيمت الأسعار بقيمة العملات الافتراضية، إذا يكفى ان قيمتها السوقية (لإجمالى العملات الافتراضية) انخفضت خلال اسبوع بحوالى 102 مليار دولار، والبتكوين تحديد انحصرت بين 18 ألف دولار إلى ما دون 11 ألف دولار، هذا بالإضافة إلى جرائم غسيل الأموال والمال السىء التى لا يمكن تتبعها عبر تداول البيتكوين فى ظل نظام التشفير المتبع والتداول خارج الإطار الرسمى.
لا شك أن العملات الافتراضية هذه سيكون لها أبلغ الأثر على النظام المالى والنقدى، ومع زيادة انتشارها سيصبح لزاماً على البنوك المركزية التعامل معها أو البحث عن صياغة مرنة للتعامل معها، ولكن الأهم من هذا كله تطبيق نظام البلوك تشين، كآلية تكنولوجية جديدة والاستثمار فيها وهو ما يتطلب تغيير استراتيجية البنوك من الناحية التكنولوجية والتشغيلية، وتبنى برامج رفع قدرات لمجموعة من العاملين والاستغناء عن العديد منهم فى ضوء وجود آلية تكنولوجية مثل هذه.
لاشك أن الموضوع يحتاج المزيد من الدراسات والنقاشات بوتيرة أسرع لمواكبة مثل هذه التطورات وأثرها على دور البنوك المركزية والتجارية، ونظم المدفوعات، وهل ستخلق مرة أخرى ما سمى فى الماضى البنك الواحد الاحتكارى MonoBank، هل ستنافس البنوك المركزية البنوك التجارية؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات، هناك دول بدأت تأخذ إجراءات جدية للتعامل مع مثل هذه العملات كما ذكرنا (مثل: اليابان- ألمانيا-السويد –الدنمارك) وهو مما أدى إلى ارتفاع سعرها، فى حين ترفضها دول أخرى (مثل أمريكا – الصين – السعودية – الأردن)، بل أن الاتحاد الأوروبى فرض قيوداً على منصات تداول البيتكوين تحوطاً من عمليات غسل الأموال.
وبشكل عام لا يمكن لمقال واحد أياً كان أن يغطى جميع الجوانب التى محلها البحث العلمى والدراسات العلمية والتطبيقية، ولكنه أمر جدير بالاعتبار مواكية هذه التطورات، فالعالم تحول من أجهزة الطابعة اليدوية التقليدية إلى الحاسب الآلى بمختلف أحجامه وصولاً إلى تليفونات وأجهزة الاندرويد والـiOS.
الثورة الصناعية الرابعة قادمة لا محالة وستؤثر على جميع القطاعات وستؤثر على العنصر البشرى كأيدى عاملة بالانحسار مع التطور التكنولوجى، ولابد من التفكير فى المستقبل من الآن.. أفراد ومؤسسات ودول.. فى ظل التخوف من حدوث فقاعة بسببها وحدوث أزمة مالية عالمية مثلما حدث فى عام 1998 (الأزمة الآسيوية) فى حال عدم الاستعداد لمثل هذه التطورات.
وما نبغى إلا إصلاحا وتوعية..