
سنة الله فى خلقه أن يميز البعض بقدرات إبداعية تجعل بعض الأفراد متفردون فى مجال تخصصهم، ولكن هذه القدرات لا يمكن أن تبدع، إلا إذا توفر لها حاضنة ملائمة ترعاها وتوفرلها سبل التقدم سواء بالدعم المادى أو توفير إمكانيات البحث والتجارب أو المناخ المناسب الداعم للتفوق العلمى..
فغياب أو شُح تلك الضروريات سيدفع المبدعون والمتفوقون إلى الهجرة للدول التى تستطيع أن تستوعبهم وتستفيذ من ما يقدمونه لكى يضيف إلى رصيد الدولة الراعية مزيد من التقدم والتفوق على أقرانها من الدول، وها نحن بمصر فى أشد الحاجة إلى تلك العقول التى هاجرت إلى الخارج، لكى تساهم فى بناء مصر الحديثة، فهل يتحقق هذا الحلم أم يصطدم بواقع مرير؟
لا تقتصر هجرة العقول على نقص الإمكانيات المادية، ولكن تؤدى الحروب والاضطرابات والثورات إلى الهجرة للدول الأكثر استقراراً، وقد حدثت هجرة العقول عبر أزمان و أماكن مختلفة، حتى أوروبا عانت من هجرة العقول المبدعة إلى أمريكا.
وعلى سبيل الاستدلال هناك علماء مثل أنشتاين وفرويد ولدوا فى أوروبا ولم يتحدثوا الإنجليزية قبل انتقالهم لأمريكا، حيث قدموا للبشرية إبداعات عظيمة، أما إيران فمازالت تعانى من هجرة المتفوقون للغرب منذ ثورة الخمينى.
كما شملت الظاهرة بلدان أخرى منها الهند والصين وتايوان وسورية ولبنان ومصر والعراق، لذلك سعت بكل قوة دول متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية إلى استقطاب العلماء المتميزون، وبالذات علماء الفيزياء النووية والطب والاقتصاد.
تتعدد أسباب هجرة العقول وتختلف من بلد إلى آخر، غالباً لا تميز الدول النامية بين المتميز وغيره لأن أنظمتها جامدة تعامل الجميع بنفس المقياس ولا توفر للمتميز حوافز تشجعه على مزيد من البذل والعطاء، فلا يجد أمامه إلا خيار الاستسلام للأمر الواقع، أو الهجرة إلى دولة تستوعب إبداعه، وغالباً ما يصيب المتميز الإحباط الشديد عندما يعمل تحت رئاسة مدير أقل كفاءة فى المراكز العلمية مثل الجامعات ومراكز الأبحاث.
هنا تتحرك دوافع الحقد ومركبات النقص، لكى تقتل طموح المتميز وتتخلص منه، وفى حالات أخرى يكون الدافع إلى الهجرة هو الطموح العلمى والرغبة فى البحث والتطوير الذى لن يتحقق بسبب ضعف الموارد المخصصة للبحث العلمى.
ولا نغفل دور الاوضاع السياسية أو الاقتصادية أو النزاعات الطائفية فى دفع العقول المتميزة إلى الهجرة إلى دول تستوعب إبداعهم.
لا اتفق مع من يتهم المهاجرين بالأنانية، وأنهم بحثوا عن وسيلة تخدم أغراضهم، فكثير منهم يفخر بجنسيته المصرية، ولديه الرغبة فى المساهمة فى أى عمل من شأنه تطوير مصر، ومنهم مَن لم يبتعد تماماً عن مصر مثل الطبيب العالمى مجدى يعقوب الذى أسس مركز القلب فى أسوان، وكذلك الراحل الدكتور أحمد زويل الذى وضع لبنة مدينة علمية فى مصر، بالإضافة إلى دكتور مصطفى السيد الذى يعكف على ابحاث للتوصل إلى إمكانية علاج السرطان بجزيئات الذهب، والمهندس هانى عازر، مهندس الأنفاق الشهير فى ألمانيا، ويرهم من أبناء مصر المخلصين.
كيف نستعيد العقول المهاجرة؟ الحل هو تطوير البنية الأساسية من الناحية العلمية والتقنية مثلما فعلت الصين وتايوان وكوريا الجنوبية ونجحت فى استعاده نسبة كبيرة من العقول المهاجرة. فالبنظر إلى الطلبة المبتعثين للحصول على درجة الماجستير والدكتوراة من الخارج نلاحظ أن نسبة لا يستهان بها تفضل عدم العودة بسبب ضعف الامكانيات المتوفرة للبحث العلمي، وتحول المراكز إلى صرح بيروقراطى كبير يقوده مجموعة من الموظفين الإداريين أو الذين تعثروا فى استكمال المتطلبات اللازمة للحصول على الدرجات العلمية فى تخصصاتهم.
وفى ظل هذا الواقع سوف يتلاشى الأمل فى الابداع فى ظل مناخ غير صحى يسوده المعوقات، وبالفعل تقدمت الدولة بمبادرة جيدة لاستعادة العقول المهاجرة، إلا ان المتابع للجهود الرسمية لاستعادة العقول المهاجرة، يلاحظ عدم وجود أخبارعن نشاط معلن للمجلس الاستشارى الذى تم تشكيله عام 2014 من كبار علماء وخبراء مصر بموجب قرار جمهورى تحت اسم «المجلس الاستشارى لعلماء وخبراء مصر».
هذا المجلس ضم فى تشكيله نخبة ممتازة من العلماء فى مجالات التعليم العالى والبحث العلمى، والمشروعات الكبرى، والطاقة والزراعة والجيولوجيا وتكنولوجيا المعلومات والاقتصاد والطب والصحة العامة والتعليم ما قبل الجامعى.
وفقاً للقرار الجمهورى بإنشاء المجلس، يجتمع المجلس مرة على الأقل كل شهرين، ويجوز لرئيس الجمهورية دعوته للانعقاد فى غير مواعيد انعقاده، لا أدرى لماذا اختفت أخبار أنشطة المجلس عن الساحة الإعلامية؟ هل هذا تقصير من الإعلام أم أن المجلس قد غرق فى دوامة الروتين وانشغل عن أهدافه الرئيسية؟
كما أود التذكير بالمؤتمر الذى نظمته وزارة الدولة لشئون الهجرة والمصريين بالخارج فى عام 2016 فى مدينة الغردقة، للتواصل مع كبار العلماء المصريين فى الخارج، وتجديد وتقوية صلتهم بالوطن، وفتح المجال أمامهم للاستفادة من إمكانياتهم العلمية وما يمكن أن يقدموه لبلدهم.
لا أدرى ماذا تحقق على أرض الواقع منذ تاريخ عقد المؤتمر، وهل تم عقد مؤتمرات لاحقة كما أٌعلن قبل؟ هل فتر الحماس لتفعيل هذه المبادرات أم اندثر تحت وطأة أولويات أخرى؟
اللهم إنى بلغت!