
بقلم: جيدون راتشمان
كاتب مقالات رأى تتناول الشئون الخارجية فى صحيفة «فاينانشيال تايمز»
تشبه السياسات الدولية اليوم بشكل متزايد، شعلة من الاتفاقات والمعايير والقواعد.. لكن الولايات المتحدة – مرساة النظام العالمى – تهاجم النظام التجارى العالمى وانسحبت من الاتفاقات الدولية بشأن التغير المناخى وإيران.
والصين قوة صاعدة، تبنى قواعد عسكرية عبر بحر الجنوب الصيني، متحدية أحكام المحاكم الدولية ورغبات جيرانها.
وضمت روسيا إقليم القرم، الذى كان جزءًا من دولة مجاورة.
وتشعر أمريكا والصين بالإغراء بشكل متزايد لكسر قيود الاتفاقات الدولية واستغلال قوتيهما لتحقيق أهدافهما بشكل أحادى الجانب.
أما روسيا فليست لديها القدرة الاقتصادية الناتجة عن القوة العظمى، ولكن لديها امتداد إقليمى وترسانة نووية، كما قدمت مساهمة كبيرة فى أجواء انعدام سيادة القانون.
ويخلق كل ذلك، معضلة للقوى المتوسطة فى العالم.
فألمانيا وفرنسا واليابان وبريطانيا ليس بإمكانها استعراض عضلاتها مثل القوى العظمى، ولكنها لاعب دولى ذوى مصالح اقتصادية وأمنية عالمية، وتحتاج إلى عالم تحكمه القواعد.
وتخلق هذه المشكلة المشتركة فرصة كذلك، وحان الوقت لتحالف غير رسمى للقوى متوسطة الحجم التى لها مصلحة فى دعم النظام العالمى القائم على القواعد، وهذه الدول بمفردها لا تستطيع ضمان نجاة منظمة التجارة العالمية، أو استمرار قوانين حقوق الإنسان العالمية ولا معايير البيئة، ولكن مجتمعة لديها فرصة للعمل معا، للحفاظ على عالم يقوم على القواعد والحقوق بدلاً من النفوذ والقوة.
وسيكون الأمر أكثر فعالية إذا بدأ على نطاق صغير، مثل مجموعة مكونة من 6 دول تضم اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وكندا واستراليا، وجميعها دول ديمقراطية غنية، مما يعنى أنه سيكون لها على الأرجح نفس المصالح والقيم، وكلها دول تجارية كبيرة، ولديها قدرة عسكرية حقيقية، واستعداد لنشر قواتها خارجيا (باستثناء اليابان).
كما تتشارك هذه الدول، الاهتمام بالقواعد العالمية التى تذهب وراء التجارة والاستثمار، وإنما أيضا التوجه للدفاع عن معايير حقوق الإنسان الدولية.
ومن الواضح أن هناك عددًا آخرا ممكنا من مثل تلك التحالفات متوسطة الحجم مثل كوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا وإيطاليا والبرازيل، ولكن جنوب أفريقيا والبرازيل بالفعل اعضاء فى مجموعة «البريكس»، كما أن إيطاليا ربما تميل إلى القومية والحمائية على غرار ترامب، وكوريا الجنوبية لديها قضية كبيرة تشغلها على اعتابها وهى (كوريا الشمالية).
ولكن ماذا بإمكان الدول المتوسطة فعله فى الواقع، بدلاً من مواساة بعضها البعض؟
ينبغى أن تبدأ تلك الدول، الإشارة إلى مواقفها ومخاوفها.
فعلى مدار عقود، نظمت الدول المتوسطة الست، مراكزها الدولية حول عمودين.. الأول علاقة قوية مع الولايات المتحدة، وعضوية فى مجموعة إقليمية قوية، مثل الاتحاد الأوروبي، واتفاقية التعاون التجارى عبر آسيا المطلة على المحيط الهادى، أو اتفاقية التجارة الحرة فى أمريكا الشمالية.
وقلب عصر «ترامب»، افتراضاتهم رأسا على عقب.
فبغض النظر عما يقوله الأوروبيون والاستراليون واليابانيون والكنديون علنا، فإنه يحبطهم جميعا الاتجاه الحالى للولايات المتحدة.
وتعد حمائية ترامب تهديداً مباشراً للمصالح الاقتصادية، فمن المتوقع أن تمضى امريكا قدما فى تطبيق التعريفات الجمركية على واردات الصلب من الاتحاد الأوروبى فى أول يونيو المقبل، وتثير عدم قابلية توقع التحركات الأمريكية وانعزاليتها الشكوك حول قوة ضماناتها الأمنية لحلفائها.
وفى الوقت الذى تنحرف فيه الإدارة الأمريكية بشكل متزايد، يتعين على القوى المتوسطة أن تقوم بالمزيد لتنسيق مواقفها، والضغط لصالح القضايا العالمية الكبيرة مثل التجارة والتغير المناخى والتحكم فى انتشار الاسلحة ومجهودات السلام فى الشرق الأوسط وآسيا، وهذا التنسيق سيحافظ على النظام العالمى الحالى حتى تعود الولايات المتحدة إلى رشدها أو للأسف سيشكل بداية عملية بناء هياكل بديلة للدفاع عن القيم الليبرالية
وبدأ البعض فى أوروبا وآسيا، بالفعل، يتكهنون باللجوء إلى الدعم الصينى أو الروسى لحماية مصالح القوى المتوسطة، ولكنه ليس مسارًا واعدًا.
ويعد دور الاتحاد الأوروبى فى تنظيم القوى المتوسطة مهما للغاية، ولكنه أيضا غامض، ففرنسا وألمانيا ترى الاتحاد الأوروبى كقوة عظمى فى طور التطور، وقوة بإمكانها الوقوف على قدم المساواة مع الصين والولايات المتحدة، ومع ذلك، فإن ظهور القوى الاستبدادية الناعمة أو الحكومات الشعبوية داخل الكتلة فى المجر وبولندا وربما إيطاليا، سيجعل من الصعب على الاتحاد ضمان مواقف مشتركة فعالة بشأن القضايا السياسية.
ومع ذلك، فإن الاتحاد الأوروبى يعمل كوحدة واحدة فيما يخص التجارة، وهو ما يجعله ثقلاً موازياً محتملاً لحمائية حكومة ترامب.
وخلال العام الماضي، وقعت كندا واليابان اتفاقات تجارية مع الاتحاد الأوروبي، وتتفاوض استراليا ونيوزيلندا أيضا مع الكتلة للقيام بالمثل، وعندما تستكمل بريطانيا خروجها – إن خرجت – فسوف تتفاوض على اتفاق تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبى وقد يبدو تحالف القوى العالمية متوسطة الحجم غريبًا، وصعبًا فى التنفيذ، ولكن الأوقات الجديدة تتطلب تفكيرًا جديدًا.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: «فاينانشيال تايمز»