ليس سراً أن بعض الأعمال تجرى جزئياً أو كلياً فى الظل بدون تراخيص أو مستندات رسمية لعدة أسباب، على رأسها تجنب الضرائب، وعدم الالتزام بالمواصفات القياسية التى تنظم معايير الجودة والسلامة، وانتهاك حقوق التأليف والنشر، وحتى تفادى البيروقراطية المعقدة فى التسجيل ككيانات رسمية. فهم يفضلون العمل خارج أى أطر تنظيمية للدولة. لذلك يطلق على هذا القطاع من الأعمال الاقتصاد غير الرسمى أو اقتصاد الظل أو الاقتصاد السرى، وهو اقتصاد آخر موازٍ لا يدخل فى حسابات الدولة رغم حجمه الكبير، ويتغلغل فى جميع الأنشطة والأعمال على امتداد الجمهورية.
وإنى أرى أن دمج القطاع غير الرسمى فى الاقتصاد الرسمى يعد من التحديات أمام الحكومة والتى يجب أن تكون على سلم الأولويات. كما أرى أن يكون للمجتمع المدنى دور كشريك فعَّال فى هذا العمل، ووسيط بين الجهات المعنية فى الحكومة ومختلف طوائف الأعمال فى القطاع غير الرسمى؛ من أجل تحقيق أقصى فائدة تعود على الاقتصاد القومى بالنفع، وبالمثل على كيانات الأعمال. تتبلور هذه الشراكة بوضوح مع تدشين أول مبادرة فى المجتمع المدنى تهتم بهذه القضية وهى «الجمعية المصرية لتطوير الاقتصاد غير الرسمى (تحت التأسيس)». لذلك سوف أخصص سلسلة من المقالات تسعى إلى القاء الضوء على الاقتصاد غير الرسمى، ومشاكله، وتطويره. وسأبذل قصارى جهدى لجعل هذه السلسلة من المقالات بسيطة وشاملة؛ حتى يتمكن القراء من متابعتها والاستفادة من محتوياتها.
الاقتصاد غير الرسمى، فضلاً عن أنه يضم أنشطة أعمال مشروعة، ويقدم منتجات جيدة، لكنه أيضاً يضم أنشطة تقدم منتجات وخدمات سيئة يطلق عليها مجازاً «بير السلم»؛ إمعاناً فى وصفها بأدنى المواصفات من حيث الجودة والسلامة. كما يضم، أيضاً، الأعمال غير المشروعة مثل تجارة المخدرات، وتجارة الأسلحة، وشبكات الدعارة، وأموال الفساد وغيرها من الأنشطة الإجرامية التى تدير أموالها بعيداً عن أعين الحكومة، أو من خلال البنوك والمؤسسات المالية. ولأنه يعمل خارج مجال الاقتصاد الرسمى، فهو لا يخضع للضرائب، ولا تتم مراقبته من الجهات الحكومية المختصة. والأهم أنه لا يدخل ضمن الناتج القومى الإجمالى.
هناك مفهوم خاطئ شائع حول مشكلة الاقتصاد غير الرسمى؛ حيث يُنظر إليه بأنه ظاهرة توجد بشكل خاص فى البلدان النامية. غير أنَّ المثير للدهشة، أنَّ ظاهرة الاقتصاد غير الرسمى منتشرة فى بعض الدول المتقدمة أيضاً. فجميع الإحصاءات حول من يعمل فى اقتصاد الظل، وحجم هذا القطاع هو أمر بالغ الأهمية من أجل دعم القرارات المتعلقة بالتخطيط، وتخصيص الموارد بصورة واقعية وفعالة.
ولسوء الحظ، من الصعب الحصول على معلومات دقيقة عن الاقتصاد غير الرسمى، والأنشطة الأساسية، وحجم السلع والخدمات، وحجم سوق العمل؛ لأن جميع الأفراد المشاركين فى هذه الأنشطة لا يرغبون فى تحديدها خشية الملاحقة، أو فرض رسوم وضرائب. ومن ثم، يمكن اعتبار تقدير الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية شغفاً علمياً لمعرفة المجهول. فإذا سألت أحد الأكاديميين أو أحد المسئولين الرسميين فى الحكومة أو محللاً سياسياً أو اقتصادياً، ما هو الاقتصاد غير الرسمى، وما هو حجمه، ستحصل على مجموعة واسعة ومتباينة من الإجابات.
بحسب تقرير حديث لمنظمة العمل التابعة للأمم المتحدة، فإنَّ أكثر من %61 من السكان الذين يعملون فى العالم- أى مليارى شخص- يكسبون رزقهم فى القطاع غير الرسمى.
ومن أجل إعطاء معنى أكثر فهماً لما جاء فى هذا التقرير، فى أفريقيا %85.8 من العمالة غير رسمية. وتبلغ النسبة %68.2 فى آسيا، وفى دول المحيط الباسيفيكى، وتبلغ %68.6 فى الدول العربية، وتقدر بنحو 40 فى المائة فى الأمريكتين، بينما تبلغ 25 فى المائة فى أوروبا ودول وسط آسيا.
وعموماً، فإنَّ 93 فى المائة من العمالة غير الرسمية فى العالم توجد فى البلدان الناشئة والبلدان النامية. هكذا فإنَّ العمل لمئات الملايين من العمال فى القطاع غير الرسمى يعنى غياب الحماية الاجتماعية وحقوق العاملين وظروف العمل اللائقة.
أما فى مصر، فلا تتوفر تقديرات رسمية دقيقة عن حجم الاقتصاد غير الرسمى. ولكن أقرب تصور لواقع هذا القطاع يشير إلى أنه يبلغ نحو 1.8 تريليون جنيه، ويضم عدداً هائلاً من الأسواق العشوائية، والمصانع غير المرخصة، ومنشآت خدمية غير مسجلة، ويوفر فرص عمل لعدة ملايين من العمالة المتنوعة، بمن فى ذلك خريجو الجامعات والحرفيون، والمزارعون والفنيون والباعة الجائلون وغيرهم من المهن والحرف.
لعل من المفيد الرجوع إلى دراسة أجراها مركز دراسات الشرق الأدنى والشرق الأوسط فى عام 2015، أشارت إلى أن الاقتصاد السرى فى مصر شكَّل أكثر من %35 من الناتج المحلى الإجمالى مع بداية عام 1976، وانخفض إلى %23 من الناتج المحلى الإجمالى فى عام 2013.
أما بحسب تقدير وزيرة التخطيط، فإنَّ نسبة مساهمة القطاع غير الرسمى فى الناتج المحلى الإجمالى هى %40، وهى نسبة كبيرة فى حجم الاقتصاد المصرى الذى يتراوح بين 3 و4 تريليونات جنيه.
للحديث بقية فى العدد القادم.
بقلم: هانى أبوالفتوح
خبير مصرفى