تحدثت فى الجزء الأول من هذا المقال عن الفوضى والعشوائية التى أصبحت سمة رئيسية لسوق التأمين فى مصر وكيفية تعامل الشركات بما يشبه «البلطجة التأمينية» لدرجة وصلت بشركة «مصر للتأمين التكافلى» أن تبيع لفريق كرة القدم بنادى الزمالك أثناء معسكره التدريبى المُقام فى دولة أوروبية لمدة 15 يوماً باقة تأمينية تتضمن كشف العيون وعمل النظارات الطبية وتركيبات الأسنان.
ولكن الحقيقة أيضاً هى أن إلقاء اللوم كله على شركات التأمين ليس منصفاً بالضرورة حيث هناك بلا أدنى شك جزء كبير من المسئولية يتحمله عميل التأمين، سواء الفعلى أو المحتمل وتحديداً عميل التجزئة الذى لا يتمتع بالحد الأدنى من الوعى التأمينى وفهم الفلسفة الحقيقية من وراء التأمين الذى هو فى أساسه فكرة تكافلية، حتى لو لم تسمى نفسها هكذا بشكل مباشر، تطورت بعد ذلك لتتحول إلى عملية استثمارية ثلاثية الأطراف ما بين العميل وشركة التأمين والكيانات أو الجهات التى يتم استثمار أموال المؤمن عليه فيها ومن ضمنها أدوات الدين الحكومى لتدخل الدولة مُمثلة فى البنك المركزى طرفاً رابعاً فى بعض الأحيان.
ومن هنا تأتى مشكلة أن العميل نفسه – لو اعتبر أنه أساساً فى حاجة للتأمين – لا يعرف فى معظم الأحوال ما هو الغطاء المناسب له وما قد يقل أو يزيد عنه. فهو ربما يرى (غالباً على خلاف الحقيقة) أنه مُحصن فى بعض المناحى فيعزف عن التأمين عليها أو ينظر إلى الأقساط التأمينية على أنها مجرد عبء إضافى على ميزانيته، سواء كان فرد أو مؤسسة صغيرة، يقيه من خطر ولكنه ليس مؤكد ولا مباشر.
ويجب أن أضيف إلى ذلك بالطبع أزمة الثقة التاريخية ما بين المواطن المصرى والتأمين حيث كان التأمين فى مصر مجرد مسألة صورية على مدار عقود من الزمان وأرتبط فى ذهنه بالتأمين الحكومى الإجبارى الذى لا يُسمن ولا يُغنى من جوع.
وللأسف لا تفعل الشركات الجديدة المحلية والدولية التى من المفترض أنها تحمل مفاهيم مختلفة الشئ الكثير لتغيير تلك الثقافة، بل تستغل المناخ المهترئ السائد لتعظيم أرباحها من مجموعة صغيرة من العملاء وتسعى فقط لزيادة أقساطها الشهرية والسنوية بصرف النظر عن عرض قاعدتها أو أن شركات سمسرة التأمين Insurance Brokerage Firms تحاول زيادة دخلها بطرق أقل ما توصف به هى أنها ملتوية وخادعة ومليئة بالوعود الفارغة.
بعبارة أخرى: الأزمة التى يواجهها التأمين فى مصر اليوم شبيهة بدرجة كبيرة جداً بأزمة نفس هذا القطاع فى أوروبا والولايات المتحدة منذ حوالى ستون عاماً، أى منتصف القرن العشرين وتغلبت عليها تلك المجتمعات حينئذٍ بحملات توعوية واسعة النطاق وبعيدة المدى نُفذت تحت إشراف الدولة وبمعاونة كبرى الشركات العاملة فى هذا المجال وكانت ألمانيا وفرنسا وقتها نماذج يُحتذى بها فى صدد تلك المجهودات وقد يكون من المُفيد أن ننظر إلى تجاربهما.
نحن بحاجة ماسة إذن إلى دولة قوية لديها إيمان بقطاع التأمين على اعتباره شريكاً لها فى العملية التنموية والإرادة على العمل نحو الارتقاء به، ليس من خلال تقييده بالمزيد والمزيد من الضوابط والتشريعات، وهو ما يحدث حالياً ولكن عبر تعميق الفهم التأمينى لدى جموع المواطنين بحيث يدركون أهمية المسألة وأيضاً يكتسبون القدرة على التمييز ما بين العروض الجيدة والرديئة. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال حملات إعلامية ضخمة تبسط الأمور وتحترم عقل المتلقى فى الوقت نفسه وإنشاء مراكز تليفونية ومواقع إلكترونية لتلقى الشكاوى والاستفسارات وإصدار النشرات والكتيبات التى تشرح العملية التأمينية وتوزيعها بالمجان فى أماكن تجمع المواطنين (مترو الأنفاق على سبيل المثال ولا الحصر) وحث شركات التأمين على توسيع تواجدها الجغرافى خارج نطاق القاهرة الكبرى والأسكندرية، خاصة المحافظات الريفية المكتظة بالسكان والشبه محرومة تماماً من التأمين.
هذا على أن يؤسس لذلك جهاز مستقل يقوم بالإدارة ويتبع رئاسة الوزراء مباشرة نظراً لعدم وجود وزارة يمكننا اعتبارها جهة اختصاص بالنسبة لقطاع التأمين بما فى ذلك وزارة التضامن الاجتماعى التى لها أولويات ومهام مختلفة تماماً ولا تصلح لهذه المهمة أصلاً من حيث بنيتها وقدراتها.
بعبارة أدق: يجب على الدولة خلق مُناخ يشعر فيه المواطن أنه مؤمن عليه ضد مخاطر التأمين.
بقلم: محمد شيرين الهوارى
الخبير فى الاقتصاد السياسى