بقلم: ريتشارد بانكس
مستشار تحرير مؤتمرات يورومنى
فى المقال السابق تناولنا أهمية المرونة كسمة رئيسية تمكن الاقتصاد المصرى من مواجهة الصدمات الخارجية والداخلية، دون أن تعيق مسيرة التغيير والابتكار والانفتاح اللازمة لتحقيق النمو المستدام.
ويتمثل التحدى الذى يواجه صنّاع القرار فى ضرورة إيجاد هذا التوازن المثالى، وحتى نتمكن من مساعدتهم فى ذلك، رأيت أنه من الضرورى أن نستعرض معكم مفهوماً آخر وهو: السرعة
إنّ مصطلح السرعة يُطبق بصورة أساسية على قطاع الشركات (فيما يُعرف بالشركات السريعة)، ولكن يمكن تطبيق هذا المفهوم أيضاً على مكونات الاقتصاد الكلى، لأنها فى الأساس تعكس صورة العالم كما هو، وليس العالم كما نتمناه.
ومن الأسباب المهمة التى تجعل من التخطيط المركزى أسلوباً عقيماً للإدارة الاقتصادية، أنّ اقتصاديات الدول بطبيعتها تتسم بعدم الاستقرار وضعف القدرة على التنبؤ بسلوكياتها، وتعنى هذه الخصائص الموروثة على المستوى الكلى أنّ القدرة على التنبؤ بما سوف يحدث، ليست فقط صعبة، ولكنها مستحيلة.
إنّ المجال الأكاديمى متعدد المناهج الذى يدرس تلك الظواهر الاقتصادية يعتمد على علوم الرياضيات والعلوم الطبيعية والاجتماعية، ويُطلق على الاقتصاد مصطلح النظام التكيُفى المعقد (CAS).
وطبقاً لهذه الرؤية، فإنّ اقتصاديات الدول هى نظام فعلى، ولكنه نظام معقد، لأنّ سلوك هذا النظام لا يمكن التنبؤ به من خلال تجميع السلوكيات المنفردة لكل مكون من مكوناته.
وقد وُصف هذا النظام بأنّه تكيُفى لأنّ كل مكون من مكونات النظام يتمتع بالتنظيم الداخلى والتفاعل مع الأحداث والقدرة على اتخاذ القرارات الخاصة بسلوكه المستقبلى، بناءً على تنبؤاته الخاصة للأوضاع المستقبلية، وبالإضافة للاقتصاد، يمكن ملاحظة سلوك هذا النظام التكيُفى المعقد فى مجالات أخرى مثل الأنظمة السياسية والشبكات الاجتماعية، وبالطبع فى الإنترنت.
وعند تطبيق ذلك على المستوى القطاعى غير الكُلّى، يشير النظام التكيُفى المعقد- على سبيل المثال- إلى أنّ المزايا التنافسية هى أمر مؤقت دائماً، حيث أنّ التغيرات الجذرية فى القطاع قد تأتى نتيجة ظهور تكنولوجيا جديدة، أو تغير أنماط الطلب، أو البيئة التشريعية، أو زيادة / نقص العرض الخاص بمكونات الإنتاج الرئيسية، ولا يمكن بحال من الأحوال للشركة أنّ تعرف متى وأين تظهر هذه التغيرات الجذرية التى تعيد تشكيل القطاع، ولكنها تعلم أنه ستحدث لا محالة. إنّ الشركات التى تعتمد على نموذج أعمال يدّعى قدرة الشركة على الاحتفاظ بميزة تنافسية في مجال ما للأبد، ستخرج من السوق بكل تأكيد، والأمثلة على ذلك تفوق الحصر: فالتصوير الرقمى قضى على صناعة أفلام التصوير الحساسة، والاهتمام بالصحة سيقضى على صناعة التبغ، والتغير المناخى سيطيح بصناعة استخراج الفحم، وصناعة الصيد تواجه مستقبلاً غامضاً، نتيجة تضاؤل كمية الأسماك المتاحة للصيد، ويمكن تطبيق هذا النموذج أيضاً على مستوى الاقتصاد الكُلّى: فلا يمكن لأي حكومة وضع مزيج اقتصادى يضمن استدامة المزايا التنافسية، ويتمثل حل هذه المشكلة فى ضرورة اتصاف الاقتصاد بالسرعة.
وبشكل أوضح، يتمثل فى وضع السياسات والاستراتيجيات والحوافز القادرة على خلق اقتصاد قادر على التفاعل بسرعة وكفاءة مع التغيرات الداخلية والخارجية المحيطة به، والقدرة فى نفس الوقت على تخفيف الآثار الاجتماعية الناتجة عن تلك التغيرات.
وبالتالى فإنّ التحدى الرئيسى الذى يواجه صنّاع القرار، لا يتمثل فيما يجب على الاقتصاد إنتاجه، ولكن كيف يمكن تنظيم هذا الاقتصاد بشكل مثالى.
إنّ الاقتصاديات الحديثة التي تأخذ فى اعتبارها مجموعة محددة من عوامل عدم التأكد، تتمكن بسرعة من اعادة توجيه مواردها، خاصة الموارد البشرية، آخذة في اعتبارها حتمية حدوث التغيرات الجذرية في السوق، حيث لا يتمثل الهدف الرئيسي في مقاومة هذه التغييرات، ولكن الانتقال للمرحلة الاقتصادية التالية بأقصى سرعة ممكنة وبأقل قدر من المعاناة الاجتماعية.
وبالطبع يمثل تنوع القطاع الاقتصادي أمراً ضرورياً، ولكنه ليس كافياً على المستوى الاستراتيجى، فمرونة أسواق العمل تمثل أحد أهم العوامل الشاملة والفعالة لضمان الأمن المجتمعى وإعادة صقل المهارات.
ومن بين العناصر الأخرى التى لا تقل أهمية: التعليم الجيد للقوى العاملة، والبنية التحتية المتميزة، واستقرار النظام المالى وقد قامت مصر ومازالت تقوم بتطويرات مهمة فى كل هذه المجالات بشكل أفضل من عدة دولة متقدمة وناشئة.
يمكن لمصر أيضاً التركيز على عاملين آخرين أبرزتهما دراسة حديثة عن ملاحظة فترات التعافي النسبي للاقتصاد الأمريكي بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008.
ويتمثل هذان العاملان فى التركيز على الأماكن التى تتمتع بأكبر عدد من أصحاب المهن الحرة، حيث أثبت هذا القطاع تمتعه بأعلى معدل لسرعة التعافى وأعلى معدلات النمو بعد الأزمات. وقد أثبتت التجربة أيضاً أنّ البنية التحتية التي تتمتع بأعلى قدر من لامركزية اتخاذ القرار، تتعافى بسرعة وبشكل أفضل من الأنظمة البيروقراطية الجامدة.
إنّ الحكومات في كل مكان تحب المركزية، ومصر واحدة من الدول المحبة للمركزية، وعلى الرغم من ذلك، فكلما كانت عملية اتخاذ القرار والتشريعات والإشراف تتم بشكل أوسع على المستوى الجزئى وليس الكلى، كلما زادت سرعة الاقتصاد وملاءمته لنموذج عدم القدرة على التنبؤ، وهى الخاصية التى يتصف بها الاقتصاد المصرى وكل اقتصاد آخر.
*كاتب المقال هو مستشار تحرير مؤتمرات يورومنى، والآراء التى يتضمنها المقال تعبر عن رأيه الشخصى.