تُعد الأسواق المالية (البورصة) فى البلاد العربية، أسواقًا إسلامية إلى حد كبير من حيث آليات التداول، فلم تعرف هذه الأسواقُ الأدوات المالية التى تشتمل على المحرمات، من المشتقات المالية وغيرها، حتى أداة المارجن (الهامش) لم يدخل هذه الأسواق إلا منذ وقت قريب.
مؤخرًا اعتزمت البورصة المصرية إدخال أداة (Short Sales) وهو ما يعرف بالبيع على المكشوف، أو بالبيع القصير كترجمة حرفية للمصطلح الأجنبى.
ما هو؟
قد يتوقع أحد المستثمرين أن أسعار إحدى الشركات سوف تنخفض، فحينئذ يعمد إلى عملية بيع قصير، وذلك باقتراض عدد من أسهم تلك الشركة من سمسار ويبيعها بسعر يومها، ثم يعيد شراءها عند تحقق حلمه بانخفاض الأسعار ليقوم بتسديدها إلى السمسار الذي أقرضه إياها رابحًا الفرق بين سعري البيع والشراء، وأما المقرض فإنه يأخذ المال الذي حصل عليه المستثمر لقاء بيعه هذه الأسهم، حيث يأخذه المقرض على أنه رهن، فينتفع بوجود المال معه حتى يسترد أسهمه.
مخاطر التعامل بالبيع على المكشوف
تكمن مخاطر التعامل بالبيع على المكشوف فى أنها تزيد مساحة الخسائر التي يمكن أن يتعرض لها السوق، حيث إن خسارة البيع العادى مرهونة بثمن الشراء، لا تزيد عنه، فمثلاً من اشترى أسهما بقيمة (10000) فإن أقصى خسارة محتملة أن تصبح الأسهم تساوى صفراً، فيخسر المستثمر قيمة الأسهم الـ (10000)، وهذا أمر عملياً لا يحدث!
لكن مع الشورت سيلينج، إذا اقترض المستثمر أسهماً وباعها بقيمة (10000) آملاً فى أنه سيتمكن من الشراء عند انخفاضها فيشتريها بـ(8000) ليعيدها إلى مقرضها رابحاً الفرق، فإن إحدى الاحتمالات الممكنة أن ترتفع الأسهم إلى (25000) أو إلى ( 30000) ، أو إلى أكثر من ذلك، فتتضاعف خسارته، خاصة عند رفعه لقيمة الضمان درءاً للبيع رغماً عنه.
الموقف الشرعى
هكذا عزمت هيئة سوق المال على تفعيل أداة ( البيع على المكشوف) بعد دراسة اقتصادية لها، لكن أين دراسة الحكم الشرعى للمسألة ؟
لماذا لم تستطلع هيئة سوق المال الجهات المعنية بإصدار الفتوى في المسائل المستحدثة؟
لماذا تتجاوز هيئة سوق المال البعد الشرعى، ولا تقيم له بالا فى بلد الأزهر؟
أليس هذا تجسيداً لما ذكره النبى صلى الله عليه وسلم من أنه يأتى على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام” [البخارى، رقم (2059).
والعجيب أن يتزامن هذا الأمر مع اختلاف المؤسسات الدينية فيما بينها حول الأحقية فى إصدار الفتاوى؟ فإذا لم يكن الجانب المالى ضمن مجال الفتوى، فعلام هذا الخلاف إذن؟ هل فيمن قام إلى الركعة الثالثة ناسياً التشهد الأوسط ! هل يُعقل هذا فى دين، كانت أطول آية فى قرآنه هى آية المداينة !
وإذا كانت الهيئة استطلعت رأي هيئات الفتوى، فلماذا لم تذكر ذلك حتى تطمئن جموع المتعاملين فى البورصة المصرية بأن دينهم محل اعتبار وإكبار!
وإذا كانت الهيئة سكتت في بياناتها عن الحكم الشرعى لهذه الأداة (الشورت سيلينج) فإن هذا المقال يعرض لجماهير المسلمين ما صدر من قرارات فقهية حول هذه الأداة، من المجامع الفقهية التى ناقشتها باستفاضة.
مجامع فقهية ناقشت المسألة:
1-ناقش مجمع الفقه الإسلامى الدولى التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامى هذه المسألة، وأصدر فيها قراره بالتحريم، رقم: 63 ( 1/7 ) فى دورته السابعة.
2- ناقش المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذه المسألة، وأصدر فيها قراره بالتحريم، رقم 30 (1/7).
3- ناقشت عشرات الدراسات العلمية هذه المسألة، ما بين دراسة ماجستير، إلى دراسة دكتوراة.
الإشكالات الشرعية في البيع على المكشوف، وانتهت جميعها إلى تحريم المسألة.
انتهى المجمعان السالفان، والرسالات العلمية إلى تحريم هذه المعاملة نظراً للإشكالات الشرعية التالية:
الإشكال الأول: إقراض الأسهم
من الأمور التي انتهى إليها البحث الفقهى أن (السهم) ليس له طبيعة مادية مستقلة، ولكنه يمثل ما يقابله من موجودات الشركة التى أصدرته، فإذا كانت الشركة التى أصدرت الأسهم شركة صناعية مثلاً، فالسهم الذى أصدرته يمثل حصة شائعة فى موجودات هذه الشركة من (بضائع، ونقود، وديون، وسمعة تجارية، واسم تجارى، و….).
وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم إقراض السهم، هل يجوز أو لا يجوز؟
وإذا أخذنا برأى من ذهب إلى الجواز – وهو الراجح فى نظرنا – ستقابلنا إشكالية فقهية، هى: ما الذى يجب رده للمقرض؟
وتبسيطاً للمسألة، معلوم أن من اقترض 100 دينار مثلاً، فإنه يجب عليه أن يرد مثلها ( أي 100 دينار)
ومن اقترض بعيراً، فعليه أن يرد بعيرا مثله ( فى نفس عمره وسنه).
ومن اقترض عقداً ذهبياً، فعليه أن يرد عقداً ذهبياً مثله (أى فى نفس وزنه)، فالقاعدة أن القروض ترد بمثلها.
فكيف يمكننا أن نطبق هذه القاعدة فى الأسهم؟
معروف أن وضع الشركة المالى ( أى موجوداتها، من بضائع، ونقود، وديون، وسمعة تجارية، واسم تجارى، و….). يتغير من آن لآخر، فاللقطة المالية للشركة لا تتكرر غالباً، فمن اقترض السهم اليوم، واتفق على رده بعد شهر مثلاً، يجب عليه أن يرد السهم في مثل وضعية الشركة وقت اقتراضها، وهيهات أن تتكرر هذه المثلية.
ونظرة سريعة إلى قوائم الشركات المالية التى تصدر كل 3 أشهر، يمكننا أن نتبين كيف أن وضع الشركة يتغير من دائنة إلى مدينة خلال 3 أشهر، كما أن الموجودات ذاتها تتغيرـ فالشركة تبيع بعض موجوداتها، وتشترى أشياء أخرى، وهكذا.
وحتى إذا افترضنا أن وضعية الشركة يمكن أن تتكرر، فهذا يقتضى فحص موجودات الشركة يوم الاقتراض ليتم رصدها وتسجيلها حتى يمكن ردها في مثل وضعها، وهذا من الأمور المتعذرة جدًّا؛ لأن الشركات تصدر قوائمها المالية، التى تبين طبيعة موجوداتها كل 3 أشهر، وليس كل شهر ولا كل يوم.
فهل يتم تقنين آلية (البيع على المكشوف) لتتم في نفس اليوم الذى تظهر فيه القائمة المالية الربع سنوية، فيتم تفعيل الآلية أربع مرات فقط فى السنة.
الإشكال الثانى: كوبون الأسهم
المراد بالكوبون، هو الأرباح التى تستحقها الأسهم التى سيتم إقراضها، ووفقاً للمتبع في هذه الآلية فإن المقترض يستلم هذه الكوبونات، ثم يُلزم بردها إلى المقرض.
والإشكال هنا أن الأسهم تُملَّك بالاقتراض، فمن اقترض أسهما فقد تملكها، وتملك ما يتولد منها، فإذا اشترط عليه المقرض الاستفادة من الأرباح، كان هذا من الربا، الذي يعرف بكل قرض اشترط فيه نفع للمقرض فهو ربا بغير خلاف بين أهل العلم.
الإشكال الثالث: الانتفاع بثمن الأسهم
حينما يبيع المقترض الأسهم، لا يُسمح له باستلام ثمنها، بل يُعطى هذا الثمن للمقرض، حتى ينتفع به، بتقليبه فى شراء الأسهم، أو يتم رهنه بمعرفة البورصة، فيوضع في حساب استثمارى ويتوزع عائد الاستثمار على ( المقرض، وشركة السمسرة، والبورصة)
والإشكال هنا كما فى سابقه أن ما يأخذه المقرض هو من الربا الذي يعرف بكل قرض اشترط فيه نفع للمقرض فهو ربا بغير خلاف بين أهل العلم، حتى لو كان هذا القرض فى صورة (رهن)، ويضاف إلى ذلك أنه غالباً ما سيكون استثمار هذا المال فى ( بنك ربوى).
كلمة أخيرة
من حق المستثمرين على هيئة سوق المال أن تحترم دينهم، ومن حق المؤسسات الدينية في بلد الأزهر على هيئة سوق المال أن تحترم دورهم في مناقشة المسائل المستحدثة، وإصدار الحكم الشرعى فيها.
فإذا لم تهتم هيئة سوق المال بذلك، فعلى المستثمرين أنفسهم أن يقوموا بهذا الدور بأنفسهم، وأن يسألوا من يثقون فى علمه وأمانته إعمالاً لقوله تعالى : {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، وقوله تعالى : {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وينبغي لمن يقوم بسن تشريع جديد فى أى مسألة ما أن يستوثق أنها لا تتعارض مع أوامر الله عز وجل؛ حتى لا يتحمل أوزار جميع من سوف يشملهم هذا التشريع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء». رواه مسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل» رواه البخارى ومسلم.