فى أغسطس الماضى، عندما تسببت أزمة الليرة التركية فى إثارة المخاوف من الاضطرابات المالية بالاقتصادات النامية الأخرى، ظلت قيمة الجنيه المصرى ثابتة كما هى، وذلك بفضل الإصلاحات المؤلمة التى بدأتها حكومة الرئيس عبدالفتاح السيسى عام 2016.
وساعد تحرير سعر صرف الجنيه، بجانب الارتفاع فى التدفقات السياحية، والتحويلات المالية التى يجريها المصريون العاملون فى الخارج على تحقيق الاستقرار فى الاقتصاد المصرى، ما دفع وكالة «ستاندرد آند بورز» لرفع التصنيف الائتمانى للبلاد.
وتواجه الإصلاحات الاقتصادية التى تشهدها مصر الآن، تحدياً غير متوقع من أجندة الإصلاح الخاصة بأهم حلفائها السياسيين والاقتصاديين، وهى المملكة العربية السعودية.
فربما تؤدى التداعيات الحتمية الناتجة عن خطة ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان للتحديث الاقتصادى إلى إجبار «السيسى» على زيادة تخفيضات الإنفاق، والسعى إلى الاقتراض الأكثر كلفة.
وبدأت الحكومة السعودية، فى 11 سبتمبر الحالى، فرض لوائح صارمة لسوق العمل لتعزيز عملية توظيف مواطنيها على حساب العمال الأجانب، إذ تم الإعلان عن هذه القيود، التى تعد جزءاً من برنامج رؤية 2030 السعودية، فى يناير الماضى.
ومنذ ذلك الحين، شهدت البلاد نزوحاً مستمراً للأجانب، إذ أشارت الإحصاءات الحكومية السعودية إلى انخفاض أعداد اﻷفراد الأجانب العاملين فى البلاد من نحو 10.9 مليون شخص فى الربع الأخير من عام 2016 إلى 10.2 مليون تقريباً فى الربع الأول من عام 2018. ولا يوجد إفصاح عن جنسيات الأجانب الذين أجبروا على ترك وظائفهم، ولكن من المنصف تخمين أن المصريين يشكلون نسبة عالية من هذه العمالة، إذ أظهرت الدراسات الاستقصائية التى أجرتها الحكومة المصرية، أن السعودية تعد الوجهة الرائدة للهجرة، كما أن بعض التقديرات تشير إلى وجود 2.9 مليون مصرى فى الدولة الخليجية.
وتعتبر التحويلات المالية التى يرسلها المصريون المغتربون إلى بلادهم من الخليج، خصوصاً من السعودية، مصدراً رئيسياً للعملة الأجنبية والاستقرار الاقتصادى المحلى.
وبحسب بيانات عام 2017 التى جمعها البنك الدولى وشركة «ستاندرد تشارترد»، تأتى أكثر من 70% من التحويلات المالية إلى مصر من أعضاء مجلس التعاون الخليجى، من بينها نحو 40% من السعودية فقط.
ولا تزال عملية تدفق التحويلات المالية من السعودية إلى مصر كما هى فى الوقت الراهن، إذ بلغ متوسطها 2.93 مليار دولار سنوياً منذ عام 2002.
وهناك سببان محتملان كامنان خلف هذا الثبات، أولهما يتمثل فى إرسال العمال المصريين الذين فقدوا وظائفهم، مدفوعاتهم النهائية إلى أرض الوطن.
أما السبب الثانى فهو استمرارية إرسال العمال الذين لا يزالون يعملون هناك مزيداً من اﻷموال إلى الوطن بشكل أكثر من المعتاد لدعم أسرهم خلال فترة التضخم المرتفع التى تمر بها البلاد، ولكن التدفقات ستتباطأ حتماً مع مغادرة مزيد من العمال للأراضى السعودية. وبالنسبة لـ«السيسى»، تعد هذه الضربة مزدوجة.. فحكومته بحاجة ماسة إلى المال ولا يمكنها تحمل انخفاض حاد فى التحويلات المالية، كما أن الاقتصاد المصرى لا يمكنه استيعاب عدد المغتربين العائدين إلى أرض الوطن، خصوصاً مع وصول نسبة البطالة إلى 10.6% فى بداية عام 2018.
كما أنها تشكل ضربة مزدوجة للعائدين، أيضاً، فهم يواجهون ندرة الوظائف، وارتفاع تكاليف المعيشة.
ويعد المأزق الذى تمر به مصر بمثابة تذكير أنه رغم التكامل الاقتصادى الإقليمى فى الشرق الأوسط الذى لم يكن قوياً بشكل خاص، ما منع بعض أنواع العدوى فى اﻷزمات، ترتبط الاقتصادات الوطنية فى المنطقة بطرق أخرى؛ حيث تعتمد الدول الفقيرة على الدول الأغنى للحصول على إعانات البترول والغاز والدعم المالى المباشر وتوظيف الملايين، وبالتالى عندما تتغير الأولويات المحلية للدولة الغنية قد يكون التأثير على الدول التابعة مدمراً. وبالنسبة لمصر، تأتى ضغوطات العمال العائدين فى لحظة غير مناسبة على وجه الخصوص، إذ أعلنت حكومة السيسى مؤخراً عن زيادة تدريجية فى أعداد العمالة من نسبة 12% المسجلة قبل عام واحد فقط، كما أن اﻷجور ارتفعت أيضاً.
وحققت مصر بعض التقدم فى خفض عجز ميزانيتها، معظمه جاء بدعم مالى خارجى، ففى العام المالى 2017- 2018 المنتهى فى يونيو الماضى، تمكنت البلاد من سد العجز وإعادة التمويل إلى حد كبير من خلال زيادة الاقتراض الدولى، سواء من خلال جهات الإقراض متعددة الأطراف أو البنوك التجارية، ولكن هذه الجهود الضخمة غطت أكثر من نصف عجز الموازنة البالغ 9.8% من الناتج المحلى الإجمالى.
وحتى دون تأثير قواعد التوظيف السعودية الجديدة، فإن العام المالى الجارى سيكون أكثر صرامة، حيث يتوقع المحللون فى «أتش. أس. بى. سى» حاجة الحكومة إلى جمع أكثر من 100 مليار دولار كدعم إضافى للموازنة من القروض الدولية أو إصدارات سندات محلية أو القروض المصرفية، أما الدعم المالى من الحلفاء الإقليميين مثل السعودية فسيكون أمراً حاسماً.
وتحاول الحكومة المصرية تقليص الدعم المالى للوقود والمرافق والنقل العام، فقد ارتفعت تكاليف النقل بالفعل بما يزيد على 50% مقارنة بالعام الماضى، كما أنه من المتوقع أن تؤدى زيادة أسعار الكهرباء المنفذة بالفعل فى يوليو الماضى إلى زيادة متوسط فاتورة الطاقة لكل أسرة بأكثر من 25%.
بقلم: كارين يونج الباحثة لدى معهد إنتربرايز الأمريكى للأبحاث السياسية العامة
المصدر: وكالة أنباء بلومبرج
