
بقلم: باتريس كاين
الرئيس التنفيذى لمجموعة تاليس
رأس المال البشرى هو موردنا الأكثر قيمة – موردٌ لا ينفد إذا امتلكنا القدرة على الارتقاء به نحو إمكاناته الكاملة.
أدت عولمة التجارة منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين إلى عولمة سوق العمل لتلبية الاحتياجات الهائلة للاقتصادات الناشئة؛ وهو ما نطلق عليه اليوم اسم “الصراع على الكفاءات”.
وفى الوقت نفسه، نشأت السوق العالمية للتعليم العالي مدفوعةً بالمعايير الجديدة والمشتركة للشهادات، والتي تتطلب من المدارس والجامعات بذل مزيد من الجهد، أكثر من أى وقت مضى، لاستقطاب خيرة ونخبة الطلاب.
المنافسة أشدّ حدّة من أى وقت مضى
ازدادت حدّة المنافسة على خلفية الثورة الرقمية وانطلاق الثورة الصناعية الرابعة، وتدرك الدول والشركات حول العالم حاجتها لاستقطاب المواهب ذوى المستويات العالية من القدرات الكامنة، خاصة فى مجالات الذكاء الاصطناعى والبيانات الضخمة والاتصالات والأمن الإلكتروني وغيرها، وتدريبهم وإعدادهم ليصبحوا رواداً وقادة فى مجال الابتكار.
“ينبغى على الدول والشركات حول العالم استقطاب الكفاءات ذوى المستويات العالية من القدرات الكامنة، وتدريبهم ليصبحوا مواهب الغد”.
ولطالما ركزت الدول الناشئة على بناء اقتصاداتها، لكنها بدأت الآن في التوجّه نحو التعليم باعتباره أولوية مهمة، وحققت نتائج مذهلة فى كثير من الأحيان، فاتجهت الصين، على سبيل المثال، نحو بناء واحد من أكثر النظم الجامعية نجاحاً فى العالم (حوالى 7.5 مليون خرّيج فى عام 2017، وهو ضعف أعداد الخرّيجين فى عام 2007).
وقد أدى هذا التركيز على الجامعات والاستثمارات الهائلة فى مجال الأبحاث والتطوير إلى أن تصبح الدولة من أكثر الاقتصادات ابتكاراً في العالم، حيث عزّزت الدولة تصنيفها بواقع خمسة مراكز وفق مؤشر الابتكار العالمي لعام 2018، وتحتل الصين اليوم مرتبة متقدمة قياساً بدول مثل كندا والنرويج، على سبيل المثال لا الحصر.
وتُظهِر حكومات الهند والبرازيل وروسيا نوايا مماثلة، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الدول التى تود تسريع عجلة نموها على مدى العقود المقبلة.
تعزيز قطاع التعليم يؤدى إلى انتعاش مستويات الازدهار
يرتبط التركيز على تطوير التعليم طرداً مع الابتكا، وبالتالي يؤدى لتحقيق مزيد من الازدهار، وكان جارى بيكر، الحائز على جائزة نوبل عام 1992، أول خبير اقتصادى يشير إلى وجود صلة بين الاستثمار فى التعليم ونمو الدخل على المستوى الفردى والوطنى على حد سواء، ويوضح مفهومه المتميز “رأس المال البشرى” الموجّه للشركات، أسباب النجاح الذى تحققه الشركات التي تعزز استثماراتها فى مجال التدريب.
وتزداد أهمية تحليل جارى بيكر مع التقدم المستمر في مسيرة التحول الرقمى، وعلى غرار الشركات والمجتمعات الحديثة، ينبغى أن يتقن الأفراد فى العصر الحالى العديد من المهارات المتنوعة ودائمة التطور.
دور الشركات في تعزيز قطاع التعليم
بصفتى رئيس تنفيذى لشركة “تاليس”، وانطلاقاً من كونى مواطناً ووالداً بالدرجة الأولى، أعتقد أكثر من أى وقت مضى أن استثماراتنا فى رأس المال البشرى بحاجة لمزيد من التطور والكثافة لخدمة مصلحة الجميع.
كيف يمكن تحقيق ذلك؟ سأتحدث انطلاقاً من خبرتى فى مجال الشركات والأعمال التجارية.
يمكن للشركة أن تتحلى بالإبداع، وتمتلك قدرة الحفاظ على هذه السمة المتميزة، بشرط أن تلعب دورها فى مجال التعليم بجدّية، وهناك عدة أساليب مختلفة للقيام بذلك.
نحن نعلم نقاط قوة النموذج الألمانى، مع مبادرات التدريب المهنى للمراهقين اعتباراً من سن 14 عاماً، فقبل بضع سنوات، بدأ الرئيس التنفيذى لواحدة من أكبر شركات تصنيع السيارات الألمانية مسيرته المهنية كمتدرب، الأمر الذى يؤكد حاجة الشركات إلى تدريب وتعزيز الكفاءات دون أى حدود لطموحاتهم بخلاف التزامهم ورغبتهم في التعلم.
“لا يمكن للشركة أن تتحلى بالإبداع إلا إذا لعبت دورها في مجال التعليم بجدّية”، لتحقيق هذا الهدف السامى، تفضّل “تاليس” التعاون مع النظم الأكاديمية حول العالم، حيث نقدم لها الدعم بهدف تحقيق التطور الاقتصادى بالطبع، ولكن أيضاً لأسباب تتعلق برسالتنا الأكثر طموحاً، والتى تتجلى في تصميم وتطوير وتنفيذ التقنيات الكفيلة بتحقيق تحسّن ملموس للحياة اليومية للجميع؛ بعبارة أخرى، توجيه التكنولوجيا لما فيه مصلحة البشرية وفائدتها.
وتتجسد هذه المنهجية في أنشطتنا بكندا، حيث تعتبر مونتريال مركزاً رائعاً للمعرفة والمعلومات مع جامعاتها ذات المستويات المرموقة، والمدفوعة برؤية سخية، وتجلى ذلك من خلال “إعلان مونتريال بشأن التطوير المسئول للذكاء الاصطناعى”.
ولهذا السبب، اخترنا إقامة مركز الأبحاث العالمى CortAIx المتخصص فى الذكاء الاصطناعى، مع إضافة ملحق جديد لمصنعنا الرقمى، ويتعاون باحثو CortAIx مع باحثين من معهد مونتريال لخوارزميات التعلّم (MILA)، ومعهد تقييم البيانات (IVADO) ومعهد ’فيكتور‘ في تورنتو، لتطوير تقنيات المستقبل بما يتماشى مع المبادئ الأخلاقية.
وبالمثل، يُستند التزام الشركة بمشروع تطوير الخدمات السحابية في مركز كيبك-أونتاريو للأبحاث والابتكار (ENCQOR)، إلى شراكات مبرمة مع مؤسسات أكاديمية وبحثية. ومن شأن هذا المشروع تعزيز الابتكار وتمكين النشر الناجح لتقنيات الاتصال من الجيل الخامس5G فى جميع أنحاء كندا.
وتعتبر هذه المنهجية النموذج الذى يحتذى به عشرات الشراكات الأكاديمية التي أقمناها حول العالم، أبرزها مع المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمى (CNRS) وكليات الهندسة الكبرى فى فرنسا؛ ومع ’معهد ماساتشوستس للتقنية‘ في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ومع العديد من الجامعات الصينية في بكين وهونج كونج؛ وفي الهند، مع معهد التقنية في بومباي ودلهي، فضلاً عن العديد من الدول الأخرى.
العلم يمتلك القوة لدفع الناس نحو طرح التساؤلات
تتمثل الطريقة الثالثة في التزام شركات التقنية بمساعدة الأطفال والمراهقين على استكشاف ملكات الذكاء والروعة اللامتناهية لمجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، والذى نطلق عليه اليوم اسم STEM.
لقد أُعجِبت كثيراً بالمبادرة التى أطلقها جورج شارباك، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1992، والتى تمثلت بمشروع لتطوير آليات تدريس العلوم والتكنولوجيا فى المدارس الابتدائية والثانوية الفرنسية تحت عنوان (La Main à la Pâte) وذلك قبل 20 عاماً.
حيث كانت الفكرة الأولية غاية في الروعة: تعليم الأطفال كيفية المراقبة وإجراء الاختبارات بحيث يمكنهم تطوير فهمهم الخاص للعالم من حولهم، والارتقاء بقدرتهم على العمل الجماعى ليصبحوا في نهاية المطاف بالغين أكثر ذكاء وثقة وإبداعاً.
وقد كنت مسروراً جداً بالجائزة التى قدمتها مؤسسة “تاليس” لمبادرة تم إطلاقها من قبل هذه الهيكلية لمساعدة طلاب من 12 صفاً من مدارس ابتدائية فى شاتيناى مالابرى لبناء وبرمجة روبوتات صغيرة.
“اصنعوا باحثى ومهندسى المستقبل عبر تحفيز فضول أطفال وطلاب اليوم”.
لقد دفع هذا الكرم الاجتماعى والتعليمي نفسه عشرات الفنيين والمهندسين من “تاليس” للمشاركة في مشاريع حول العالم، تجلى أبرزها في كرولي بإنجلترا مع مدرسة “سانت ويلفريد” فى إطار مسابقة “أردوينو”، وفي آرن شتات وديتزينجين بألمانيا، لتعريف الأطفال بالمهن العلمية والتقنية؛ وفى أرلينغتون بالولايات المتحدة الأمريكية، لمساعدة طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية على بناء صواريخ صغيرة للمشاركة في مسابقة “تيم أمريكا روكترى تشالنج”، ويدرك موظفونا القوة الكامنة في تعليم العلوم، وهو ما يدفع المهندسين والفنيين إلى تخصيص وقتهم لتنظيم ورش عمل ومسابقات من شأنها إثارة فضول الطلاب الصغار في المدارس الابتدائية والإعدادية، الذين يمكن أن يصبحوا باحثى ومهندسى المستقبل.
نحو عصر جديد من التنوير
فى مقالته الشهيرة “ما هو التنوير” التى كتبها عام 1784، دعا الفيلسوف إيمانويل كانت معاصريه “للتحلّي بالشجاعة واستخدام فهمهم وعقولهم” لتحديد مصائرهم.
وفى الفترة ذاتها، اقترح عالم الرياضيات جان دالمبير والفيلسوف دينى ديدرو من خلال موسوعتهما عرضاً مذهلاً للعلوم وتقنيات زمنهما، مع نفس المستوى من الطموح السخيّ لتعليم البشرية وتحريرها من الجهل.
سيتطلب التحول الرقمى الذي نشهده فى عصرنا الحالى، من الأجيال المقبلة امتلاك مهارات علمية وتكنولوجية أكثر شمولية من أي وقت مضى؛ ونظراً لما تمتلكه شركات التقنية من كفاءات ومواهب مدرّبة ومتميزة بفضولها للمعرفة والابتكار، ينبغي عليها تعزيز دورها فى إنشاء عصر جديد للتنوير من خلال التعليم والأبحاث الجماعية، وبما يصب في مصلحة الجميع.