لا خلاف أن الاستثمارات الأجنبية خاصة المباشرة تأتى على رأس أولويات غالبية اقتصاديات دول العالم على اختلاف أطيافها، وتباين قوتها الناشئ منها والنامى وحتى كُبرى الاقتصاديات، فالأمر بالفعل بخلاف دلالاته ومؤشراته الإيجابية المتعددة على اقتصاد الدولة وموازناتها، فإنه يمثل، بصورة أكبر، رواجاً اقتصادياً ومالياً ملموساً على أرض الواقع، فضلاً عن مزيا أخرى تكاد تكون معلومة للجميع.
ولأن الحديث عادة فيما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية المباشرة وقراءتها وتحليلها يتسم بالشروع والاستغراق فى لعبة الأرقام ومعادلاتها، وتلك لعبة إن لم تكن تُجيد التعامل معها وبها، فغالباً سينتهى بك الأمر وأنت عالق بين دروبها المتشابكة، كما أن هذا مقال وليس ورقة بحثية سأحاول التحرر من الانسياق وراء رصد وتحليل الأرقام باعتبار أن هذا التناول ينبغى له قدر كبير من التخصص المالى والاقتصادى، فضلاً عن محاولة الابتعاد لما هو معتاد لدى الكثير فى معالجة وتناول مسألة الاستثمارات الأجنبية المباشرة بوضع روشتات علاجية سريعة تأتى فى صيغة عناوين براقة ورؤوس أقلام.
لذا وبحكم المهنة دعونا نقترب من السياج العملى والقانونى المحيط بمعضلة الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى مصر، وذلك من وجهين مترابطين؛ الأول أنه لا حديث عن استثمارات أجنبية مباشرة دون المرور والحديث بجدية ويقين واقتناع من جميع أجهزة الدولة بأهمية الاستثمار المحلى أولاً باعتباره حجر الزاوية والبنية التحتية لأى استثمار أجنبى.
فى دولة كبيرة بحجم مصر، ينبغى أن نُذكر أنفسنا طوال الوقت بأنه ما يقرب من الـ%40 ـ وفقاً لأقل التقديرات ـ هو اقتصاد موازٍ غير رسمى ولم يُدمج بعد ضمن المنظومة المالية والاقتصادية والقانونية للدولة، وذلك وسط غياب قوى لما قد يحمله هذا الرقم من إيضاحات حول القطاعات المتواجد بها وأُطـر عمله وتحليل للعمالة المرتبطة به جغرافياً ونوعياً إلى آخر ذلك من البيانات التى لا غنى عنها لمحاولة استكشاف هذا الجانب غير المرئى أو المعلوم للدولة واقتصادها، والحديث عن اقتصاد مصر الموازى والذى يراه الكثيرون بمثابة خبيئة وأحد كنوز الدولة غير المستغلة لم يكن من الأساس على جدول اهتمامات الدولة حتى عقود قريبة، وحسناً ما قامت به الدولة، مؤخراً، من اتخاذها بعض التدابير التشريعية التى من شأنها الكشف (التدريجى) عن هذا القطاع الموازى ولعله من الواجب فى معرض ذكر تلك التدابير ما قام به البنك المركزى المصرى على سبيل المثال إطلاق حملة الشمول المالى فى القطاع المصرفى والتى تُعد بحق إحدى الوسائل المهمة التى ساهمت فى إحياء الحديث الجاد عن الاقتصاد الموازى، ومحاولة إدماجه فى القطاع الرسمى، كما قام المركزى المصرى بتبنى ورعاية منظومة المدفوعات الإلكترونية والتى أصبحت الآن إحدى أهم الشبكات المالية التى تُمكن القائمين على النظام المالى من قراءة الكثير حول حركة المدفوعات الإلكترونية لما لمثل هذا النشاط من إمكانيات جبارة لاختراق مناطق لا تصل إليها فروع البنوك أو أى منظومة مالية أو نقدية أخرى، أيضاً قام المركزى والهيئة العامة للرقابة المالية بإنفاق الجهد اللازم فيما يتعلق بمد مظلة نشاط التمويل متناهى الصغر والتعريف به، والذى بدوره يتصل بشكل كبير بقطاعات مهنية وحرفية كانت بعيدة تماماً فى تعاملاتها عن جميع أشكال الرسمية.
وفى سياق طرح الأمثلة لا ينبغى أن ننسى ما طرأ على قانون الشركات المساهمة من تعديلات محورية والتى على المستوى الشخصى أجد أن تقنين وتشريع ما يسمى بشركة الشخص الواحد هو أحد أهم تلك التعديلات، بل إنه للأسف لم يأخذ حظه من الترويج اللازم خاصة بين أوساط التجار الأفراد أو مجتمع رواد الأعمال.
هذا وإن كان الحديث عن الاقتصاد غير الرسمى أو الموازى مهماً فإن الحديث عن الاستثمارات المحلية العاملة فى المظلة الرسمية أكثر أهمية خاصة فى معرض حديثنا عن الاستثمار الأجنبى المباشر، وهنا وبقدر كبير من الدهشة والتساؤل لما كل هذا الإصرار على استخدام خطاب يتميز بقدر من التعالى تجاه الاستثمارات والمستثمرين المحليين والمصريين، وإن عظم حجم هذا الاستثمار فى مقابل كل وأى استثمار أجنبى، وإن قل حجم هذا الاستثمار.
قطعاً وبلا أدنى شك وكما أشرنا فى البداية، أنه لا خلاف على أهمية التدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر، لكن ينبغى أن يوضع هذا الاهتمام فى حجمه الطبيعى دون أن يؤثر أو يمثل أى إشارة بأن لدينا تصنيفاً وشبهة تمييز فى المعاملة بين المستثمر الأجنبى فى مقابل المصرى.
يقيناً أعلم أنه لا توجد لدينا تشريعات تخلق تراتبية أو تمييزاً بين المستثمر الأجنبى والمصرى، لكن ما أتحدث عنه هو ضرورة استخدام خطاب تحفيزى وتشجيعى للمستثمر المصرى الذى يجد الدولة تحاول على طول الخط استقطاب الاستثمار الأجنبى باعتباره طوق النجاة لها، بينما إن شئنا الدقة فالمستثمر المصرى واستثماراته المحلية هى طوق النجاة الحقيقى، وهو بالفعل الأولى بهذا الخطاب التحفيزى.
يقينى أنه لن تجد الدولة سفراء للترويج لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة أفضل من مستثمريها المحليين، فعلى مدار اليوم والساعة فإن شبكة المستثمرين المحليين هم بحكم نشاطهم وبحكم ارتباطهم بمنظومة وشبكات التجارة الدولية فى اتصال دائم ومستمر فما بين تعامل مع بنك أجنبى بمناسبة اعتماد مــا أو مورد أو وكيل أو مُصنع إلى آخر ذلك من أوجه التعاون على جميع المستويات والأصعدة فإن المستثمر المحلى يحمل ويُصدر إما رسالة استياء وتذمر من منظومة الاستثمار والتجارة التى يعمل بها أو على العكس يُصدر رسالة طمأنة وتحفيز للمستثمر الأجنبى الذى يتعامل معه باستمرار.
إن السوق العالمى ومنظومة التجارة الدولية والعالمية شديدا الذكاء فى قراءة الواقع والسوق ومقدار جاذبيته للاستثمار به وظنى أن استقراءهما للواقع المحلى ومصداقيته يأتى على قمته معرفة تقييم المستثمريين المحليين للمنظومة التى يعملون بها.
الوجه الثانى الذى يُعد وبحق مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمسألة الاستثمار الأجنبى أو المحلى سواء كان رسمياً أو موازياً هو مسألة المظلة التشريعية والقانونية التى تحيا فيها تلك الاستثمارات، وهنا يكمن السحر وتتجلى حرفة المشرع أو الرقيب فى خلق التوازن بين منظومة تشريعية ورقابية تتسم بالاستقرار والمرونة فى ذات الوقت.
فبقدر كبير يجب أن تتسم مظلة التشريعات الاستثمارية على وجه الخصوص ليس فقط بالثقة من جانب المستثمر تجاه المُشرع أو الرقيب بل يجب على الأخير، أيضاً، أن يضع قدراً من الثقة فى مستثمريه، فالعلاقة إذن ترتكز على ثقة متبادلة فالدولة لا يجب أن تنظر للمستثمر أيـاً كان على أنه شخص أو كيان يتسم بالجشع أو الرغبة فى التهرب من التزاماته، بل الأوجب أن تنظر إليه باعتباره شريكاً محورياً فى عملية التنمية والتنمية المستدامة التى يهدف إليها أى نظام سياسى.
وعلى الجانب الآخر تتمثل ثقة المستثمر فى تشريعات الدولة ليس فقط فى الاعتقاد فى نُبل مقاصدها، ولكن وهذا هو الأهم الثقة فى استمرارية البنية التشريعية التى اختار طوعاً أن يعمل ويضخ استثماره بها والتى لا يرغب أى مستثمر محلياً كان أو أجنبياً فى أن يراها كصورة مهتزة ومتسارعة الوتيرة فى تغيراتها أو أن يراها تُسن لحالات بعينها وليس لعموم السوق، والثقة كما أشرنا ليست فى ركيزة الاستقرار والحيدة فقط بل أيضاً الثقة بمعنى المرونة والتجديد وقبول المستقبل ومستجداته وابتكاراته.
قطعاً لا ندعى أن مهارة إحداث التوازن بين تلك العوامل هى أمر سهل ولكنها مع الأسف أمر واجب وحتمى.
فى سؤال المقال عمن يبحث عن الآخر أعتقد أن الدولة ليس عليها أن تختزل البحث فقط فى الاستثمار الاجنبى المباشر بل عليها أن توجه جزءاً وافراً من طاقة البحث لإعادة البحث واكتشاف مستثمرها الوطنى والمحلى والذى بدوره هو من سيبحث الاستثمار الأجنبى عنه.
مصطفى موسى
محام شريــك بمكتب الدكتور زياد بهاء الدين للمحاماة