
جانب العرض.. المتسبب الرئيسي للصدمات في اقتصادات القارة
شهدت القارة السمراء العديد من الاضطرابات في الفترة اﻷخيرة، فمنذ أكثر من شهر تحدى المتظاهرون في السودان الغاز المسيل للدموع وطلقات الرصاص للمطالبة باستقالة الرئيس السوداني عمر البشير، بعد أن بدأت الاضطرابات بمظاهرات نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية وارتفاع مستويات التضخم إلى مستوى يتجاوز الـ 70%.
كما اندلعت في الرابع عشر من يناير الماضي، احتجاجات في زيمبابوي، بعد أن رفعت الحكومة أسعار الوقود، ولكن حملة القمع هناك كانت فتاكة وسريعة.
وذكرت مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية أن مثل هذه الأزمات تستحوذ على عناوين الصحف بشكل سريع، ولكنها تكشف عن تحول كبير.
ففي أفريقيا، كما هو الحال في الاقتصادات المتقدمة، انخفضت مستويات التضخم على المدى الطويل، فبعد أن عانت خمس دول في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء خلال ثمانينيات القرن الماضي من معدلات تضخم سنوي لا تقل عن 20%، أصبح السودان وجنوب السودان فقط هما من يعانيان من معدلات تضخم جنونية في العقد الحالي، في حين يصعب قياس التضخم في زيمبابوي، مع العلم أن تلك المعدلات استثناء وليست قاعدة.
واتخذت الدول الأفريقية طرقا مختلفة لكي تصل إلى أوضاعها الاقتصادية الحالية، فنادرًا ما يمثل التضخم مشكلة بالنسبة للدول الـ 15 الواقعة في غرب ووسط أفريقيا، ممن تربط عملاتها باليورو، كما أن هذه الدول استمدت مصداقية بنوكها المركزية من أوروبا.
وفي أماكن أخرى، تم إصلاح السياسات النقدية في التسعينيات تحت إشراف صندوق النقد الدولي، إذ أعطت الحكومات مزيداً من الاستقلالية للبنوك المركزية، كما أن عددًا من تلك الدول سمح بتحرير أسعار صرف العملات وتوقف عن طباعة كثير من الأموال.
وأشارت المجلة البريطانية، إلى أن البنوك المركزية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى طبعت في تسعينيات القرن الماضي أموالا بنسبة 12% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا من أجل المساعدة في تمويل الحكومات، ولكن بحلول عام 2015 انخفضت تلك النسبة إلى 3%.
ومع ذلك، لا يزال يواجه مصرفيو البنوك المركزية الأفريقية مهمة أصعب من نظرائهم في العالم الغني، حيث تتكون 40% من مجموعة الاستهلاك المستخدمة لحساب التضخم في المنطقة من الغذاء، ولكن في العالم الغني يستحوذ الغذاء على متوسط نسبته 15% من سلة الاستهلاك.
وأوضحت “ذا إيكونوميست”، أن ناتج الغذاء ينخفض وترتفع اﻷسعار بمجرد انخفاض مستويات هطول الأمطار، وتأتي الصدمات أيضا من الخارج عندما تتعثر العملات أو ترتفع أسعار الواردات، ومع ذلك غالبا ما تستخدم مستويات التضخم المرتفعة في التخلص من عدم الانضباط في الاقتصاد الكلي.
وفي الوقت نفسه، يمكن أن تصعب السيطرة على مستويات التضخم حتى لو كانت نسبته أحادية الرقم.
بالإضافة إلى ذلك، تتسبب صدمات جانب العرض في مأزق للسياسة النقدية، فغالبا ما يعاني العالم الغني من تقلبات إثر تحولات في الطلب، وإذا أنفقت الحكومة المزيد فإن ذلك يحفز الإنتاج ويؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
ويسير اﻷمر على النقيض من ذلك في أفريقيا، حيث يدل الضغط المتكرر على العرض، على أن التضخم والإنتاج يتحركان في اتجاهين متعاكسين، فقد يؤدي الجفاف إلى رفع الأسعار في ظل انخفاض الإنتاج، مما قد يدل على ضرورة تشدد البنوك المركزية عندما يكون الاقتصاد في مأزق.
وفي معظم أفريقيا، عادة ما تكون أسواق الأسهم والسندات صغيرة النطاق، إذ تتمتع 20% من الشركات فقط بإمكانية الحصول على قروض بنكية أو ائتمان رسمي.. لذلك فإن السياسة النقدية لديها تكون ذات تأثير محدود على الظروف المالية كما أن مفعولها يبدأ السريان ببطء، فهي تعمل جزئيا من خلال حث البنوك إلى الإقراض بشكل أكبر أو أقل.
ولا تزال العديد من دول المنطقة تضع أهدافا للنمو في المعروض النقدي، ولكن الابتكارات المالية، مثل المعاملات المالية بالهاتف المحمول، تدل على أن المعدل الذي تتحرك به الأموال من فرد إلى آخر غير قابل للتنبؤ، مما يؤدي فك الارتباط بين الأموال النقدية والتضخم.
وغالبا .. لا تستطيع البنوك المركزية تحقيق أهدافها لأسباب يصعب تفسيرها، ولكن ربما يكون من الأفضل التركيز على معدل تضخم واضح، باستخدام أسعار الفائدة كأداة رئيسية، فهذا اﻷمر يعد أسهل للتواصل مع الجمهور، وبالتالي يكون له تأثير أكبر، وقد أجرت بعض الدول، بما في ذلك غانا وأوغندا، هذا التحول بالفعل.
ويشعر البعض من أن التركيز الضيق على اﻷسعار قد يعيق النمو، ففي أفريقيا يتراوح معدل التضخم المستهدف بين 5% و8% تقريبا، كما أن الدراسات وجدت أن التضخم يبدأ في إعاقة النمو في الدول الفقيرة فقط عندما يصل إلى ما يتراوح بين 15% و20%، لذا يحث بعض الاقتصاديين على اتباع نهج أكثر مرونة يركز بشكل أكبر على الأهداف الأخرى، مثل خلق فرص العمل.
ويمكن النظر إلى أوغندا، على سبيل المثال، التي تتمتع ببنك مركزي متشدد بشكل واضح، ففي عام 2011 عندما دفعت صدمات السلع والانتخابات الرئاسية معدلات التضخم إلى 25%، رفع البنك المركزي اﻷوغندي أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 10 نقاط مئوية، كما أغلق التجار المتاجر وسرحت الشركات العمالة الموجودة لديها.
وقال رامتان جوجوبي، من كلية الأعمال بجامعة ماكيريري اﻷوغندية، إن البنك المركزي كان يعمل بأسلوب استخدام مطرقة لقتل بعوضة، بينما قال آدم موغومي، رئيس قسم الأبحاث في بنك أوغندا، إن مستويات التضخم المرتفعة لا تساعد أي فرد.
ويعد الجدل حول أهداف البنك المركزي أمرا جيدا، وبمعنى آخر تعد السياسة أمرا ذا فائدة أقل، فهي تتسبب في كثير من المشكلات، ويتمثل إحداها في القوانين الجديدة، مثل وضع حد أقصى لمعدلات الإقراض التجاري التي فرضها البرلمان الكيني في عام 2016، مما آثار غضب البنك المركزي الكيني الذي يشكو من انخفاض فعالية السياسة النقدية كنتيجة لذلك.
بالإضافة إلى ذلك، يوجد صداع سياسي آخر يتمثل في الإشراف المصرفي، الذي عادة ما تقوم به البنوك المركزية.
فقد عانى بنك أوغندا من دعاوى قضائية وتحقيقات رسمية بعد إجراء بعض عمليات الإغلاق للبنوك المثيرة للجدل.
وتتدخل السياسة من خلال طريقة ثالثة أيضا تتمثل في الدين العام، إذ ارتفعت مستويات اقتراض كثير من الدول بحدة في العقد الماضي، كما وصل متوسط العجز المالي في المنطقة، بما في ذلك المنح اﻷجنبية، إلى 3.5% في 2018، مما ينعش الضغوط لتشغيل مطابع النقود.
ويقول المحافظ السابق لبنك تنزانيا المركزي، بينو نيدولو، إن ثمة مخاوف متزايدة بشأن الاستقلالية المكتسبة بصعوبة للبنوك المركزية في أفريقيا، مضيفا أن فقدانها للاستقلالية سيكون أمرا مؤسفا لان مهمتها صعبة بما فيه الكفاية.