الأسبوع الماضى انعقد المؤتمر السنوى الأول لقوانين الأعمال وهو فعالية للمتخصصين القانونين المصريين على اختلاف أماكن عملهم ما بين مكاتب المحاماة والإدارات القانونية بالبنوك والشركات وأيضا الجهات الرقابية وأساتذة القانون بالجامعات وأخيراً عدد من السادة القضاه العاملين والمتصلين بمجالات القوانين المالية والإقتصادية.
المؤتمر الذى دعت إليه شركة طيبة وهى أحد الشركات المتخصصة فى مجال الدراسات والأبحاث الإقتصادية القانونية كان بعنوان «قوانين التمويل فى ضوء المتغيرات التشريعة الجديدة» وأجندة المؤتمر كانت أيضا شديدة التماس والتخصص فى مناقشة عدة موضوعات شديدة الأهمية ولا يمكن بحال أن يتم تجاوزها لاسيما فى ظل الوفرة التشريعية والتنظيمة الحالية لحزمة التشريعات الإقتصادية والمالية فى مصر، من هذه الموضوعات التى كانت مثار التحليل والعرض بمناقشات المؤتمر هى قراءة لما هو متدوال بشأن مسودة قانون البنوك الجديد وآخر مستجدات التشريعات المصرفية وتشريعات سوق المال وبالأخص صناديق الأستثمار والطروحات فى البورصة وما أسفرت عنه تلك التعديلات فى مسألة العقوبات الجنائية إزاء بعض المخالفات، وأخيراً كان هناك عرض مستفيض لقوانين التمويل فى ظل مجتمع التقنيات المعلوماتية الحديثة.
الآن لا يخلو حديث يتطرق لمناقشات تكنولوجيات المستقبل إلا ويلحق به تساؤلات عن العملات الرقمية المُشفرة والمعروفة بإسم الـ Cryptocurrencies، وبالفعل كانت إحدى جلسات المؤتمر قد ناقشت مستقبل العملات الرقمية وماهيتها وأنواعها ومخاطرها ولماذا يرى فيها البعض المستقبل بينما يراها الكثيرون خطر محدق.
صراحة أنا منتمى دون مواربة للرأى الآخذ بعدم تقنين أوضاع تلك العملات أو إدخالها ضمن مظلة الوفاء والسداد. أما فى أسباب عدم قبول هذا وتأسيسه فهذا ما أحاول عرضه فى هذا المقال دون التطرق أو التناول لمزايا أو عيوب ومخاطر «البيتكون» أو غيره من العملات الرقمية المشفرة، ولكن من زاوية تناول الأمر من منظور ما يمكن أن نسميه «الجاهزية التشريعية» وبالتالى فإن سؤال هل العملات الرقمية المشفرة أمر جيد أم لا؟ هو سؤال ربما يجد له إجابة من المنظور التقنى أو منظور اقتناص فرص الاستثمار وليس فى معرض حديثنا هذا.
لدى الكثيرين رأى مفاده أن عصر العملات الرقمية آت لامحالة بل إنه بدأ بالفعل ولا مجال لتجاوز متغيرات وإيقاعات التطور التى يمر بها العالم وعلينا إن أردنا أن نكون وجهة إستثمار إقليمية أن نلحق بعربة القطار قبل المغادرة وإلا ستكون تكلفة اللحاق باهظة.
حسناً.. دعنا لنفترض جدلاً أننا سًلمنا بالفعل بأن العملة الرقمية «البيتكون» أو غيرها هى أعظم إكتشاف بعد جهاز تكييف الهواء فى صيف أغسطس وأنها آمنة فى تعاملاتها أو أنها ليست خطراً أو تمثل بيئة خصبة لتمويلات وإستخدمات غير مشروعة أو أنها لن تهدم فلسفة قوانين الكسب غير المشروع وغسيل الأموال.
هنا ياتى ما أسميته بـ«الجاهزية التشريعية» والتى نقصد بها مدى تحمل البنية التشريعية المعمول بها بالفعل لدى دولة ما لقانون جديد، ليس هذا فقط ولكن أيضاً مدى جاهزية واستعداد البيئة والوسط المخاطب بهذا التشريع للعمل بموجب أحكام هذا القانون.
لنتفق أننا فى معرض الحديث عن قانون يبيح التعامل بالعملات الرقمية المشفرة من عدمه لا نتحدث عن قانون يتصل بالحقوق أو الحريات العامة أو حتى الحاجيات الاستراتيجية للمواطن أو الدولة وبالتالى فالنقد المُسبق لعملية مثل تقنين تخليق تلك العملات بكل ما يحفها من مخاطر هو أمر لا يدعو إلى الرجعية وإنما يدعو إلى الواقعية التشريعية لاسيما فى مواجهة تيار أصبح مهوساً بإقتناء كل ما هو جديد بغض النظر عن مدى موائمته بدعوى اللحاق بالمستقبل ولذلك فالحديث عن أن بعض الدول رفضت تقنين التعامل بالعملات الرقمية المشفرة بدعوى أنها بذلك تفقد سلطتها وسلطانها على أسواق النقد التقليدية هو فى رأيى إجتزاء مُخل ومبتسر لدور البنوك المركزية فى هذا الخصوص لأن دور تلك الجهات هو دور رقابى للسوق شأنه شأن أى سوق يجب أن يتأطر ويعمل وفق ضوابط تنظم العلاقات بين المتعاملين فى مظلته وليس سوق العلاقة فيه علاقة حاكم بمحكوم.
لدينا فى مصر بدأت مؤخراً شريحة صغيرة من مواطنيه تلامس مفهوم «المدفوعات الإلكترونية» وتكنولوجيتها المرتبطة وإن شئنا ضرب مثال فى الفجوة التقنية بين المدفوعات الإلكترونية والعملات الرقمية المشفرة فهى تقريباً أشبه بمقياس رسم 1 : 1000 الفجوة كبيرة بالفعل والتأهيل للتعامل من خلالها فى سوق كثيف التعداد السكانى مثل مصر لازال يتعامل ورقيا فى تقريبا كل معاملاته هو مجازفة بكل المقاييس.
فى السوق المصرى والذى بحسب أكثر التقديرات تحفظاً يمثل إقتصاده غير الرسمى والموازى ما يقرب من نسبة الـ45% من إجمالى السوق تمنيت لو كان هناك مخرج مثل هتشكوك يخرج لنا فيلم رعب اقتصادى ليصور مشهد حركة تجارة واستثمار ومال وتوظيف غير مرئية وتتعامل خارج أُطر الرصد الإحصائى والإخضاع الضريبى وتمثل ما يقرب من نصف قوة السوق ثم وفى حركة واحدة مباغتة مَنحت هذا الكيان المسمى بالإقتصاد الموازى آلة الزمن وعباءة التخفى السحرية. حرفياً لامجاز المشهد سيتجاوز توقعاتك وبعد أن كنا نحاول جاهدين دمج ومزج الاقتصاد غير الرسمى وتقليل الهوة بينه وبين الإقتصاد الرسمى الآن أنت لن ترى هذا الإقتصاد الموازى مرة أخرى من هول الفجوة التى ستصبح بينكم وربما سطوة قوته التى سيصبح عليها هى من ستحاول صهرك بداخلها.
إن ما أسميناه بالـ”الجاهزية التشريعية» لا تكمن أهميته فقط فى قياس مدى تحمل وإتفاق قوانين الدولة مع أى قانون جديد قد يصدر لديها وإنما هى تقودنا أيضا لما يسمى بـ”قياس جودة التشريع» وعملية قياس واختبار الجودة لم تعد تقف أو تقتصر فقط على الصور النمطية للمنتجات والسلع وإنما إمتدت أيضا ومنذ وقت ليس بالقصير للخدمات وفى رأيى فالتشريع يمثل فى جانب منه خدمة يقدمها المجتمع من نفسه ولنفسه بُغية تطويره وتنميته وبالقطع يجب أن تُقاس وتُختبر جودتها من آن لآخر وأحد أهم مؤشرات قياس الجودة هى اختبار الفاعلية وإستمرارية واستدامة تلك الفاعلية وثابت مستواها وفى تلك النقطة أعتقد أنه لا مجال للخلاف حول استحالة قياس تلك الجودة فى ظل عدم تحقق تلك الجاهزية.
ظنى أن كثير من الأصوات التى نادت المشرع المصرى بتقنين أو بعدم تجريم التعامل بالعملات الرقمية المشفرة قد غابت عنها قراءة أبجديات المشهد الذى نعيش فيه ربما بدافع الإنسياق التام وراء بريق كل ما هو جديد بزعم أنه بوابتنا للمستقبل وغابعنهم كما يبدو ضرورة وأهمية المرور بأكثرمن خطوة تمهيدية قبل القفز عشرة خطوات مرة واحدة، فأن نخطو تجاه تعزيز ونشر ثقافة وتوسيع رقعة المدفوعات الإلكترونية هى خطوة واجبة وأن نخطو وبجد تجاه تقليل الفجوة بين الإقتصاد الرسمى وغير الرسمى هى أيضا خطوة أكثر وجوباً كل ذلك وغيره ربما يخلق بيئة تشريعية وحاضنة ومؤهلة لاستيعاب مثل تلك الطفرات التى يمر بها عالمنا لذا ربما يكون من الأصوب هو التمهل فى قراءة المشهد عالمياً ومحلياً وعدم الإندافع تجاه سن مثل تلك التشريعات ذات الكلفة العالية.
لقد كان قرار المركزى المصرى فى رأيى موفقاً للغاية فى الإفصاح الواضح والقطعى عن عدم قبوله للتعامل أو الإعتراف بمنظومة العملات الرقمية المشفرة. ربما كان دافع هذا الرفض هو لأسباب تقنية وفنية أو لإرتفاع المخاطر الأمنية ..ربما، ولكن النتيجة واحدة وإن إختلفنا فى التسبيب وما أشرنا إليه فى عنوان المقال أن التأخر واجب أحياناً هو تأخر التهمل غير المجازف والذى يكون فى كثير من المواقف أمر واجب.
بقلم: مصطفى موسى
محام