اشتهرت سنغافورة على مدى عقود بكونها “سويسرا الشرق”، فهى ملاذ آمن ومحايد للأعمال التجارية فى جزء صعب فى بعض الأحيان من العالم.
ويقول تشونج جا إيان، الأستاذ المشارك فى العلوم السياسية بجامعة سنغافورة الوطنية، إن هذا الأمر حاز على اهتمام عالمى “ليس فقط بسبب حجمه وارتباطه بالأموال الصينية، بل أيضًا لأنه يسلط الضوء على المخاطر التى تواجهها سنغافورة عندما تحاول إعادة تعريف نفسها فى عالم أكثر تنافسية وتجزئة”.
وأوضح إيان، أيضًا أن سنغافورة تريد أن تكون “مكانًا متميزًا للأعمال المتميزة، وليس مجرد جزر كايمان أو موريشيوس، مكان يمكن أن يجذب رأس المال العالمى ويعاد استثماره فى مكان آخر، لكن هذا النموذج له عيوب خطيرة”.
وأثبت اقتصاد سنغافورة المنفتح والمعتمد على التجارة مرونته فى مواجهة الصدمات الخارجية مثل تزايد الحمائية العالمية وتجزئة سلسلة التوريد.
وتتصارع الدولة المدينة مع تزايد عدم المساواة المرتبط بتدفقات رأس المال غير المقيدة من الولايات المتحدة وأوروبا وخاصة الصين.
ويتساءل البعض عما إذا كان النموذج الاقتصادى الذى يعتمد إلى هذا الحد على رأس المال الأجنبى سيعود بالنفع على المواطنين كما كان يفعل فى السابق.
هناك أيضاً مسألة حساسة متمثلة فى تدهور العلاقات الصينية الأمريكية، ففى ظل تسرب المزيد من الأموال والنفوذ من الصين إلى سنغافورة، فإن عملية الموازنة بين بكين وواشنطن تصبح أكثر خطورة، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
تدفق الأموال
تحت قيادة لى كوان يو، مؤسس سنغافورة الحديثة الذى توفى فى عام 2015، تحركت الدولة المدينة بعد الاستقلال عن ماليزيا فى عام 1965 من منطقة راكدة فى جنوب شرق آسيا إلى واحدة من أنجح الاقتصادات فى العالم.
وأدرك “لى” أن تشجيع الاستثمار الأجنبى وهجرة العمالة الماهرة والتبنى السريع للتكنولوجيا الجديدة كان يعتبر الجانب الأكبر من بناء الدولة.
وبالرغم من تشكك العديد من الدول فى الشركات العالمية المتعددة الجنسيات، إلا أن “لى” رحب بها من خلال فرض ضرائب منخفضة وتقديم إعانات ودمج الرأسمالية ودولة الرفاهية التى تحمى المواطنين وتوفر لهم السكن والرعاية الطبية والتعليم.
واستفادت سنغافورة من فترة التصنيع السريع والعولمة حول العالم، واستفادت أيضًا من موقعها الاستراتيجى الذى جعلها مركزًا مثاليًا للتجارة.
وفى عام 1965، كان نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى مجرد 516 دولارا مقارنة بـ91 ألف دولار حاليًا، وهو أعلى من نظيره فى الولايات المتحدة وأستراليا وفرنسا والمملكة المتحدة، وليس بعيدًا عن سويسرا.
واستمر الازدهار الاقتصادى فى عهد خلفاء “لى”، أولا جوه تشوك تونج، ثم نجل لى، لى هسين لونج، الذى وصل إلى السلطة فى عام 2004.
ولم يتمكن الانفصال بين الولايات المتحدة والصين وغير ذلك من الصدمات العالمية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، من عرقلة تقدم سنغافورة، بل إنها استفادت أيضًا من الاضطرابات الخارجية.
يقول ديفيد باخ، الأستاذ فى المعهد الدولى للتنمية الإدارية فى سويسرا: “هناك مفارقة مفادها أن الاقتصادات المفتوحة الأصغر حجمًا تستفيد من تدهور العلاقات الثنائية، ونتيجة لمثل هذه الديناميكيات أصبحت سنغافورة أكثر أمانًا بالنسبة للمستثمرين والشركات متعددة الجنسيات لممارسة الأعمال التجارية”.
وساعدت سمعة سنغافورة باعتبارها “مركزاً آمناً”، بجانب ضرائبها المنخفضة، الدولة المدينة على التنافس مع الإعانات الصناعية الضخمة المقدمة عبر الاقتصادات المتقدمة الكبيرة فى الولايات المتحدة وأوروبا، مثل قانون خفض التضخم فى الولايات المتحدة أو الصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبى.
وتتلقى سنغافورة نسبة أكبر من الاستثمار الأجنبى المباشر الأمريكى فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ مقارنة بالصين وهونج كونج مجتمعتين، فقد ارتفع إجمالى تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر إلى 195 مليار دولار سنغافورى العام الماضى، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق وبزيادة 10% من 176 مليار دولار سنغافورى فى 2021.
كما اجتذبت سنغافورة رقمًا قياسيًا قدره 22.5 مليار دولار سنغافورى من استثمارات الأصول الثابتة فى 2022 رغم الرياح المعاكسة العالمية.
يقول باراج خانا، المؤسس والشريك الإدارى لشركة “فيوتشر ماب” الاستشارية العالمية، إن “الأموال تتدفق، فى ظل رغبة المستثمرين فى الحصول على مكان مفتوح حقًا وموطن للجميع، لا تهيمن عليه قوة واحدة”، مشيرًا إلى أن هونج كونج توقفت منذ فترة طويلة عن لعب دور المركز الآسيوى.